العقوبات الاقتصادية من منظور حقوقي
أصبح سلاح العقوبات الاقتصادية ملازما لأغلب الصراعات الدولية في الآونة الأخيرة، وبدا أولا كأحد الأسلحة في مجال العلاقات الدولية ضد بلدان العالم الثالث، وانتقل استخدامه بين الدول الكبرى، ثم استخدم بشكل كبير وموسع في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا. وبدا أحيانا كعقاب جماعي لهذه الشعوب على قرارات حكوماتها، على الرغم من أنه ليس بالضرورة وجود تأييد شعبي لهذه المواقف، كما تضمن معنى الضغط على هذه الشعوب المضارّة اقتصاديا للتحرّك ضد حكوماتها.
بدأ فرض العقوبات على روسيا من الجانب الأميركي في أعقاب حرب القرم عام 2014 ودعم الانفصاليين الأوكرانيين في إقليم الدونباس، ثم جاءت الموجة الثانية في 2017 بسبب اتهام موسكو بالتأثير على الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016، فيما جاءت الموجة الثالثة إثر اغتيال الجاسوس الروسي، سيرغي سكريبال، وابنته في لندن عام 2018، وطاولت روسيا ورجال أعمالها في الخارج، لكن تطبيق هذه العقوبات كان مقنناً ومحدودا. وركزت العقوبات المعلنة أخيرا على عدد من الجوانب، أهمها: تجميد الأصول المالية والعقارية القيادات السياسية الروسية، ومنها الرئيس بوتين ورئيس وزرائه ووزير الدفاع والقادة العسكريون وأعضاء البرلمان وقادة بيلاروسيا، ورجال أعمال قريبون من النظام، كما طاولت العقوبات البنك المركزي الروسي وعزله عن أسواق المال العالمية، وشملت حظر عدة بنوك روسية ورجال أعمال عن نظام سويفت، وحظر مؤسسات مصرفية عن النظام المالي الأميركي وتجميد أصول مصارف روسية أخرى، فضلا عن وقف مؤسسات تجارية خاصة (ماكدونالدز مثلا) مشروعاتها التجارية في روسيا. كما امتدت العقوبات إلى المجال الرياضي، رغم المبدأ الأساسي للاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا÷ بالفصل بين الرياضة والسياسة، وإلى المجال الإعلامي بوقف بث قناة روسيا اليوم على المستوى الأوروبي.
تعد الجمعية العامة مصدرا ثانيا لإصدار العقوبات الاقتصادية، ولكن بدرجة أقل، وفق ضوابط قانونية
من جانب آخر، تسعى الدول المحاصرة، خصوصا الكبرى، مثل الصين وروسيا ثم إيران، إلى اتباع طرق مختلفة للتهرّب والتخفيف من آثار هذه العقوبات على اقتصادها، سواء في إيجاد أنظمة مالية وطنية موازية للنظام البنكي السائد والاعتماد الذاتي على قواها الاقتصادية، أو بالتعاون فيما بينها وبين البلدان الأخرى بعملتها المحلية التي لا تخضع لهذه العقوبات.
بشكل عام، تتنوع هذه العقوبات بين فردية من الدول أو جماعية من مجموعة معينة من الدول على دولة واحدة، مثل العقوبات على روسيا، وقد تكون هذه العقوبات مفروضةً أمميا من خلال مجلس الأمن. وقد تضمن الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة تدابير تسعى إلى حفظ الأمن والسلم الدوليين، تجسّدت في الية العقوبات الاقتصادية، وقد تتحوّل هذه العقوبات إلى إجراءات عسكرية، خصوصا في حالة العدوان على أراضي الغير واحتلالها. وتتوقف درجة تأثير هذه العقوبات على مدى حجم الدول المقاطعة ونوعها واتساعها، فكلما اتسع نطاق هذه الإجراءات كانت نتيجتها مؤلمة ومؤثرة على الطرف المحاصر.
في الحالة الروسية، وقف سلاح الفيتو مانعا ضد أي اجراء من مجلس الأمن، وأدى ذلك إلى سعي التحالف الأميركي الأوروبي إلى توسيع هذه الإجراءات والضغط على الدول الأخرى لتقوم بهذه الإجراءات نفسها في المجال الاقتصادي وتحجيم علاقاتها مع روسيا، وبتعويض انتاجها في السوق العالمي، كما يحدث مع منتجي البترول والغاز، والدعم المالي والعسكري لأوكرانيا من جهة أخرى. ولا تنال هذه الإجراءات شرعية الا في إطار ميثاق الأمم المتحدة، يُصدر من خلالها مجلس الأمن القرارات والتوصيات، ويتخذ التدابير اللازمة لمواجهة الحالات التي تشكّل تهديدا للأمن والسلم الدوليين. وتعد الجمعية العامة مصدرا ثانيا لإصدار العقوبات الاقتصادية، ولكن بدرجة أقل، وفق ضوابط قانونية لا تتحقّق إلا بتوفر شرطين، أولهما حال انتهاء مجلس الأمن من بحثه في الموضوع، إلا إذا انتهى منه أو أحاله إليها أو تجاهله، الثاني بإحالة مجلس الأمن كل المسائل التي من الضروري فيها القيام بعمل ما قبل لبحثها أو بعده طبقا لنص م 11 فقرة 2 من الميثاق. والسؤال الأساسي إلى أي مدى تتفق هذه العقوبات مع حقوق الإنسان، خصوصا بسبب تأثيرها على المعيشة اليومية لهذه الشعوب وأمنها الغذائي، بل وتأثيرها السلبي على الدول الأخرى في مجال احتياجاتها الغذائية.
تستند قواعد القانون الدولي الإنساني إلى احترام قانون حقوق الإنسان الذي يعترف بالحق في الحياة والصحة والمستوى اللائق من المعيشة
فرض هذه العقوبات الاقتصادية في أي نزاع، دوليا كان أو داخليا، يستلزم احترام قواعد القانون الدولي الإنساني، خصوصا المتعلقة بالإمدادات الطبية والغذائية للشعوب المتأثرة بتلك العقوبات، وتستند هذه القواعد أيضا إلى احترام قانون حقوق الإنسان الذي يعترف بالحق في الحياة والحق في الصحة والمستوى اللائق من المعيشة، بما فيه الغذاء والملبس والمسكن والرعاية الصحية، والحق في التنمية، فإذا انتهكت هذه العقوبات أيا من هذه الحقوق، وشكلت مساسا بها، فإنها تتعارض مع مبادئ حقوق الإنسان. كما حدث مع العراق على سبيل المثال، الذي طُبّق عليه نظام شامل ومتسع من العقوبات الاقتصادية استمر 13 عاما حتى بعد انسحابه من الكويت، كما يستلزم حماية حقوق الشعب الأوكراني بتوفير احتياجاته الأساسية وضمان حماية المدنيين من ويلات الحرب.
تختلف فعالية نظام العقوبات الاقتصادية المعمول به أمميا من أزمة إلى أخرى، وتظهر هذه الآلية الخطيرة مدى الاحتياج لقواعد دولية متفق عليها تنظم هذه العقوبات، تقوم بها الأمم المتحدة، تكون ملزمة قانونا لأي بلد، بحيث تحقق أغراضها في حال العدوان على قواعد القانون الدولي، تتفادى ما حدث من أخطاء في التجارب السابقة، ويجب أن تكون مؤقتة، ومنضبطة الحدود وتتفادى التأثير على حقوق هذه الشعوب غير المسؤولة عن قرارات أنظمتها السياسية الحاكمة.