العفو منه.. أم عنه؟
لا يوجد معنى آخر للإفراج عن مجموعة من المعتقلين السياسيين، بعد سنوات من الاحتجاز والحبس الاحتياطي، سوى أنهم كانوا محبوسين ظلمًا وتعسفًا، وأن إطلاق سراحهم هو اعتذار عن خطأ، أو بالأحرى جريمة ارتكبت بحقهم.
في بلاد العالم المحترمة، يستتبع الإفراج عن سجين مظلوم تقديم حزمةٍ هائلةٍ من التعويضات عن كل يوم فقدوا فيه حريتهم، وأضيروا في أعمالهم وسمعتهم، وأهدرت إنسانيتهم، مع محاسبة كل من تسبّبوا في إلحاق كل هذا الأذى بأبرياء.
في مصر، والدول القمعية الفاشلة فقط، يسمّون التوقف عن الظلم والأذى عفوًا رئاسيًا ومكرمة من الحاكم، ويحوّلون الأمر إلى مناسبة للنفاق، وإسباغ صفات العدل والرحمة والإنسانية على المستبدّ الذي وجد نفسه تحت حصار أزمات تهدّد عرشه، فقرّر أن يناور ويتحايل، ويظهر وجهًا إنسانيًا اصطناعيًا.
وسط بهرجة حفلات ما يسمى "العفو الرئاسي" المقامة في مصر هذه الأيام، تتحوّل المسألة من احتفاء بحريات مستردّة إلى احتفال بالزعيم الذي قرّر أن يعفو، أو بالأحرى المطلوب هو إهالة التراب على كل الكوارث والمذابح والخطايا التي وقعت وارتكبت طوال السنوات الماضية، وكأن المستهدف العفو عنه، لا استجداء العفو منه.
مجدّدًا، استرداد أي مواطن حرّيته أو بعض حرّيته المهدورة هو، بحد ذاته، مكسبٌ يستحق الفرح، بعيدًا عن الآليات والأساليب التي أخرجته من الزنزانة، ولكن من دون أن يكون ذلك سببًا في إسباغ بطولات ومآثر مبالغ فيها على المعفو عنهم، وعلى الذين قرّروا العفو في إطار مقايضة سخيفةٍ تتضمن التنازل عن حق محاسبة الذين أجرموا، والتخلي عن سجناء آخرين تزداد معاناتهم وتتضاعف جرعات العصف بهم في محابسهم، وهم السجناء الأجدر أن يقال عنهم سجناء الرأي، كون وجودهم في السجن مرتبطًا بمعارضة جذرية للمسار الكارثي الذي يتوجّع من نتائجه الآن كل (أو معظم) الذين كانوا مؤيدين له قبل سنوات.
مهرجانات العفو الصاخبة لا ينبغي أن تنسينا أناسًا داخل الزنازين، يجسّد حبسهم معنى الجريمة السياسية الكاملة، ومن هؤلاء رجل الصناعة المعروف، صفوان ثابت، وابنه الأكبر، المحبوسان ظلمًا وعدوانًا، لأنهما، فقط، رفضا الخضوع للابتزاز، والتخلي عن صرح اقتصادي هائل بني بالعرق والكفاح على مدار سنوات طويلة، فكان العقاب هو السجن بتلفيق اتهامات باطلة تشمل التوليفة التقليدية البائسة من تمويل الإرهاب ومشاركة جماعة إرهابية أهدافها .. وغير ذلك من محفوظاتٍ لا يصدّقها الذين وضعوها أنفسهم.
من هؤلاء أيضًا رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، المستشار هشام جنينة، الذي عُزل من منصبه، لأنه مارس وظيفته ودوره الأساسيين في إصدار تقارير عن حجم الفساد المستشري في مفاصل الدولة، ثم جرى الاعتداء الوحشي عليه، وإهانته وإصابته بجروح، ثم تحويله من مجنيٍّ عليه إلى مرتكب جناية، لينتهي الأمر بسجنه، وهو القاضي الجليل المشهود له بالنزاهة من الجميع.
الشاهد أن ما يسمّى العفو الرئاسي، وأيضًا الحوار الوطني، ليسا إلا محاولة مكشوفة لترميم تمثال الحاكم المتصدّع، المليء بالشروخ والتشقّقات، والذي يحيطه الفشل في كل الملفات، ويستشعر خطر الانكشاف التام، داخليًا وخارجيًا، حتى يكاد يكون منبوذًا من الكل.
في ظهوره الأحدث، بالأمس، والذي يتزامن مع خطوة إثيوبية الجديدة بالملء الثالث لسد النهضة، معلنة انفراد أديس أبابا الكامل بالتصرّف في مياه نهر النيل، تحدّث الجنرال المتصدّع لمن أطلق عليهم "الأشقاء الأفارقة"، معلنًا، بشكل صريح، الهزيمة في ملف المياه، وأن النيل لإثيوبيا تتصرّف فيه كيف تشاء .. بينما لم يبق لمصر أن تدبّر احتياجاتها عن طريق المياه الجوفية ومعالجة مياه الصرف الصحي، لأنه، وهو المسالم الوديع، لا يريد النزاع على حصص المياه.
كل الكلام عن الخطوط الحمراء، والخطط الجاهزة لاستعادة حقّ مصر في المياه، وتلقين إثيوبيا درسًا لن تنساه، هو الآن ينهار ويتساقط مثل ثمارٍ معطوبةٍ من سلة مليئة بالثقوب، ليفيق المصريون على كابوس، لطالما حذّر منه الجميع، منذ ست سنوات، حين وقع جنرال العفو والإحسان على اتفاقية إذعان وتفريط تمنح الإثيوبيين السلطة الكاملة على النهر من المنبع حتى المصبّ.
مرّة أخرى، يتجدّد السؤال: كم مترًا مكعبًا من دماء المصريين أهدر "جنرال العفو"، وكم مترًا من مياه النيل وفرها وحافظ عليها، خلال تسع سنوات، منذ صعوده الإجرامي إلى قمة السلطة؟
هذا هو السؤال الذي يجب أن يواجِه به كل مصري نفسه.