الطفلة التي طارت

11 ديسمبر 2024
+ الخط -

لا أدري هل علي أن أتساءل من هي أمي، أم يكون السؤال الأكثر تحديداً ووجعاً، وهو أين أمي؟ لأن كل ما لديّ من معلومات وأخبار بدأت تتحول إلى صورة ضبابية توشك أن تختفي، ولكني ما زلت أسمع كلمات متناثرة حولي، وأحاول قدر استطاعتي أن أحتفظ في ذاكرتي البيضاء كصفحة ماء ببعض الذكريات التي أشعر أنها سوف تفيدني حين أكبر قليلاً، وربما حدثت من حولي عنها، واستطاعوا أن يعرفوا من أنا. تخيّلوا أنني، وسط هذا الجنون، قد أصل إلى لحظة ألا يعرفني أحدٌ ما لم أستطع أن أخبرهم وقتها ببعض ما علق في ذاكرتي. ولذلك علي أن أجيد الاحتفاظ به ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.

هناك صورة أولى، ما زلت أذكرها، لامرأة بيضاء بضّة الجسم، ولكنها قصيرة القامة، كانت تلقمني صدرها ذات صباح فيما تضع أخي الذي يكبرني قليلاً فوق ركبتها الثانية وفيما كان يحاول أن يزيحني عن صدر أمي ويبكي ويجذبني من ملابسي. كانت أمي تضحك وتظهر أسنانها البيضاء الناصعة، وأرى قاطعها العلوي المكسور الحافَة، فيزيد من جمال ضحكتها، وهي تحاول أن تنهى أخي عما يفعل، فيما شعرتُ بدقّات قلبها ترتفع، وأنا ألتصق بصدرها، وربما شعرت بقلق مبهم، خاصة أن أبي كان قد ذهب باكراً إلى السوق، وكانت الحرب قد دقّت طبولها حولنا، ولكن الجميع تحدّث إن هي إلا أيام وتنتهي. وفيما كان السوق ما زال عامراً بكثير من أصناف الطعام، فقد قرّر أبي أن يذهب ليبتاع لنا بعض المؤن.

في لحظات قادمة، شعرت بجسدي الصغير يطير، ولم أشعر بعدها بشيء، فيما أحاطت بي سحابة من الغبار، شعرت على إثرها أنني على وشك أن أختنق، ولكني لم أفهم شيئاً مما حدث سوى أنني أطير فعلاً، ثم صمت كل شيء حولي، ولم أكن أعرف لحظتها أنني فقدت الوعي، وأن أخي الذي كان ينازعني، قبل لحظات، على حضن أمي، قد طار مثلي، وأن جسديْنا الصغيرين قد استقرّا فوق سطح بيت الجيران، وأن المرأة ذات القاطع المكسور الطرف الذي كان يزيّن ضحكتها الطيبة قد أصبحت جثة تحت الركام.

بعد وقتٍ لا أعرفه، سمعت صوت امرأة تحدّث رجلاً، واكتشفت أنه أبي، وتروي له كيف عثرت علينا، أنا وشقيقي الأصغر، فوق سطح بيتها، بعد أن تعرّض بيتنا للقصف. وقد حدث ذلك، لأن بيتنا يقع بالقرب من الشارع الرئيسي، وحيث كانت الطائرات تقوم بعمل ما يعرف بـ "الحزام الناري"، وهو قطع الطرق، حتى لو أدّى ذلك إلى قطع البيوت والأجساد، عن طريق إلقاء الصواريخ تباعاً على شكل حزام. وهكذا فقد ذهب بيتنا، بكل من فيه، وقد كانوا أمي وباقي إخوتي وجدّي وأعمامي وعائلاتهم.

سمعتُ الرجل ينتحب، وكان يتحدّث بكلام غير مرتّب، مثل أنه كان على بعد أمتار قليلة من البيت، وقد رآه وهو يتحوّل إلى ركام ابتلعه باطن الأرض. وفيما تعالت بعض أصوات المواساة حوله، انسحب أبي المذهول من المكان، وهو يحملنا على كتفيه ويتّجه صوب شاطئ البحر.

سلمني أبي إلى سيدةٍ تمتّ إلينا بصلة قرابة لترعاني، وسافر هو على عجل عبر الحدود لعلاج أخي الذي أصيب إصابات بالغة، وبقيت أنا في رعاية هذه السيدة، والتي وضعتني في خيمةٍ مع أطفالها، وبدأتُ من وقتها أناديها بلقب أمي، كما طلبت مني. وبعد عام من هذا الجنون، قتلت هذه المرأة بقصفٍ مجاورٍ لعدّة خيام، فنقلوني بعد أن أنقذوني بمعجزةٍ إلى خيمة امرأة أخرى لا تعرف أبي، فضمّتني الى صدرها، وطلبت مني أيضاً أن أناديها بلقب أمي، ولكني لم أفعل، وما زلت أتساءل عن عدد الأمهات اللاتي يملكهن الأطفال في هذا الجزء من العالم فترة مؤقتة، وإلى متى سوف أظلّ أنتقل من أم إلى أخرى، ولكنهن جميعاً لا يشبهن تلك المرأة التي كانت تُلقمني صدرها وتضحك بقاطع مكسور يزيد ضحكتها جمالاً.

دلالات
سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.