الطريق نحو المغرب الكبير

02 سبتمبر 2021
+ الخط -

وضعتُ للمقالة عنواناً يختلف عن المواقف التي أثارها القرار الجزائري، الصادر يوم 24 الشهر الماضي (أغسطس/ آب) في موضوع قطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب. لم ألتفت إلى الضجيج الإعلامي الذي يملأ كثيراً من فضاءات التواصل الاجتماعي في المغرب والجزائر، لأنه يكشف بوضوح الدور الذي ما زالت تمارسه تركة الاستعمار ومنطق الحرب الباردة على مجتمعاتنا، في بدايات العقد الثالث من القرن الجديد. وكل من تابع الندوة الصحافية التي أعلن فيها وزير الخارجية الجزائري، رمطان لعمامرة، قرار بلاده، ويتابع ردود الفعل التي تلتها في بعض المنابر الإعلامية وفي فضاءات التواصل الاجتماعي يدرك جيداً أن المواقف الجزائرية والمغربية من كل ما جرى ويجري اليوم ترتبط بإشكالات سياسية لا علاقة لها بواقع البلدين في عالم متغيّر، عالم لم تعد له علاقة بالشروط العامة لأنماط العلاقات الدولية، كما رُسِمت معالمها الكبرى في النصف الثاني من القرن الماضي.

لم تعرف أغلبية شباب البلدين زمن حرب الرمال بين الجارين الشقيقين سنة 1963، ولم تعرف منطق التنافس الذي ساد بينهما، زمن الثنائية القطبية. كما نعرف أن العالم شَهِد في نهاية القرن الماضي تحوّلاتٍ تقضي بضرورة تجاوز آليات الحرب الباردة، هذا من دون أن نُغفل أن قادة المغرب الكبير وضعوا، في ثمانينيات القرن الماضي، أفقاً مؤسّسياً للعمل الإقليمي المغاربي، قصد مواجهة تحدّيات مجتمعاتهم، فكيف يواصل من تبقى ناجياً من دويلات المغرب العربي، بعد انتفاضات سنة 2011، إيمانه بأوهام التفوق والزعامة والتوسّع، وهو يعرف أن معارك الديمقراطية والتنمية والاستقلال لم تُنجز بعد في مجتمعه؟ كيف يواصل التفكير في إشكالات الراهن السياسي المغاربي بآليات عفا عنها الزمن؟

كنت أتصوَّر أن الندوة الصحافية لوزير الخارجية الجزائري ستخصّص حيزاً لبلدان المغرب الكبير الأخرى، ليبيا التي تزداد أوضاعها سوءاً، وتونس التي يعرف مسار تحوّلها الديمقراطي بعد الثورة منعطفاً جديداً. وتصوَّرت أيضاً أنه قد يقدّم مقترحاتٍ تساهم في تفعيل أدوار الاتحاد المغاربي كما نصّت عليها مواثيقه، لجعله قاطرةً لتنمية غرب الوطن العربي، وذلك بالاستغلال الجماعي للموارد الطاقية والبشرية، وكل الخيرات الرمزية التي راكمت مجتمعاته.

لم يساعد كل ما حصل من تطوُّر في موضوع قضية الصحراء المغربية داخل المنتظم الدولي، منذ 1975، في إيجاد الحلول المناسبة لكل أطراف النزاع

لم تستطع المواقف المرتبكة والمندفعة التي واكبت القرار، أو حصلت قبله في البلدين، لم تستطع التخلص من الأوهام التي بُنِي القرار انطلاقاً منها، وهي في أغلبها أوهامٌ رُكِّبَت خطوطها الكبرى في سياق شروط في السياسة والتاريخ لم تعد موجودة، شروط ارتبطت بوعي النخب السياسية الحاكمة في البلدين، زمن هواري بومدين والحسن الثاني، واستقرّت في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، بكل ما يرتبط بها ويدعم حضورها في العلاقات بين البلدين. وإذا كانت مشكلة الصحراء، المرتبطة بمسألة تصفية بقايا الاستعمار الإسباني جنوب المغرب، بمثابة فتيل ساهم في تأجيج مختلف صور التوتر التي حكمت العلاقة بين الجارين، كما ساهمت في وقف مشروع اتحاد المغرب العربي، فإن التحدّيات التي تواجه كلّاً من المغرب والجزائر اليوم في موضوع الديمقراطية والتنمية لا تسمح باستمرار القيام بالمناوشات الحربية التي تمت بينهما في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي في معبر الكركرات الرابط بين المغرب وموريتانيا، وما تلا ذلك من مواقف لسفير المغرب في الأمم المتحدة، كلها معطياتٌ ترتبط بجوانب من سيناريو قطع العلاقات الدبلوماسية المعلن بينهما. إلا أن ما يُستغرب له هو الضجيج الناشئ في فضاءات التواصل، حيث يتم الاستخفاف بالتاريخ المشترك، على الرغم من التطور الذي حصل في النظر إلى موضوع الصحراء، سواء في الجزائر أو في المغرب أو وسط سكان مخيمات تندوف.

لم يساعد كل ما حصل من تطوُّر في موضوع قضية الصحراء المغربية داخل المنتظم الدولي، في ضوء المسارات والأبعاد التي اتخذتها منذ 1975، في إيجاد الحلول المناسبة لكل أطراف النزاع، من قَبِيل التفكير مثلاً في المشكل انطلاقاً من أسئلة التنمية المغاربية الشاملة، بل تمت المحافظة على المرجعية السلبية في النظر إلى الموضوع، من دون أدنى تطويرٍ لآليات التفكير المساعدة على استيعابه ضمن رؤيةٍ مغايرة، وهذه الملاحظة تشمل كل الأطراف.

تُفهم الخلافات بين المغرب والجزائر بمنطق السياسة والتاريخ، وتؤجّجها السياقات والشروط الإقليمية والدولية المحيطة

تُفهم الخلافات بين المغرب والجزائر بمنطق السياسة والتاريخ، وتؤجّجها السياقات والشروط الإقليمية والدولية المحيطة بها، وقد تساهم في تقليص وفرز بعض المداخل التي تسمح ببناء ما يتجاوزها. وعندما نتأمل ما يجري اليوم في الإعلام، يمكننا تشخيص كثير من أوجُه المواقف التي يجري تداولها بصورةٍ لا علاقة بمواقف البلدين، حيث تتطاير أحلام وأوهام كثيرة في تمجيد هذا النظام أو ذاك، وتنشأ مقارناتٌ في التمييز بينهما.. وإذا كان من حق الساسة أن يستخدموا أحكاماً متطايرة في الفضاء الأزرق، فإن من وظائف المثقفين ومؤسسات المجتمع المدني تحليل الأبعاد الأخرى لموضوعات الخلاف، وفي مقدمتها مؤسّسة الاتحاد من أجل وقف التوتر والحدّ من إمكانات تصعيده، وذلك لردِّ الاعتبار لمشروع المغرب الكبير بثرواته وتاريخه، ومختلف المكوِّنات التي تصنع من غرب الوطن العربي أفقاً للبناء والتقدم.

يُقرأ الموقف الجزائري اليوم، وهو بالمناسبة يشبه مواقف مماثلة اتّخذها المغرب أيضاً في سياقاتٍ أخرى، كأفقٍ لانفراجٍ سياسي يلوح في الأفق، فعندما ترتفع حِدّة التَّصَامُم بين الجيران، نكون على أبواب فتح الآذان المغلقة. وإذا كان هناك إجماعٌ بين مثقفي البلدين على أن معضلات التنمية والتقدّم أكثر أهمية من حسابات معارك التنافس بين الجاريْن، والتي ترتبت عن الزمن الاستعماري، وتغذَّت في زمن لاحق بتموقعات التبعية في زمن الحرب الباردة وما تلاها، ثم التنافس على الريادة المتواصل اليوم بصور مقنّعة، فإن أسئلة الراهن المتعلقة اليوم بالتحديث والتنمية، تحديث الدولة وتنمية المجتمع في بلدان المغرب الكبير مجتمعة، تضعنا مباشرة أمام تطلّعات شعوب المنطقة، حيث تنتظر مؤسسات اتحاد المغرب العربي تفعيلاً لأدوارها، من أجل انخراطٍ فعليٍّ في الاستماع إلى الأسئلة الكبرى التي تنتظر أجوبة، تنقلنا من دويلاتٍ تتربَّص ببعضها إلى مجتمعاتٍ لا تتردّد في صناعة مصيرها المشترك شمال أفريقيا جنوب المتوسط، غرب المشرق العربي.

C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".