طوفان الأقصى وميلاد رأي عام جديد

20 يونيو 2024
+ الخط -

تعود القضية الفلسطينية اليوم لتملاً المجال السياسي العربي والعالمي بأسئلةٍ جديدة، إنها تعود بعد ثلاثة عقود من إعلان المبادئ، بشأن ترتيبات الحكم الذاتي وأحلام السلام التي ترتبط في أذهان الصهاينة بمزيدٍ من الضم والاستيطان، كما ترتبط في مخطّطاتهم بالتهجير والإبادة، وتوسيع دوائر التطبيع والمطبّعين. إنها تعود اليوم بطرقٍ أخرى، لتُواجه مختلف أشكال التراجع التي حلّت زمن ما بعد الثورات العربية، بكل ما أنتج من خيباتٍ جديدةٍ في الوضعين، الفلسطيني والعربي. وهي تعود بعد حدث "طوفان الأقصى" وما وَلَّد في الكيان الصهيوني وفي الغرب المناصر له من جنون، دفعه إلى القتل الأعمى، القتل بالهدم والحرق والتجويع والتهجير وتخريب المنشآت، معتقداً أن أعماله سَتُمَكِّن الصهاينة من إتمام عملية سرقة الأرض والتاريخ، ثم إعلان صفقة القرن مشروع الشرق الأوسط الجديد!

نُعاين عودة القضية في صورها الجديدة ونحن نتابع الحركة الاحتجاجية التي ملأت بعض الجامعات الغربية في كل من أميركا وأوروبا، حيث عادت القضية الفلسطينية لتصبح كما كانت قضية الأحرار في العالم. استنفدت السردية الصهيونية بريقَها المرتبط بقوى الاستعمار القديم ومخلفاته، والمرتبط، في الآن نفسه، بالوظيفة التي أَوْكَلَ الغرب الإمبريالي لمن يمثله في قلب المشرق العربي، بعد أن مَكّنه من الأرض، وسمح له باجتثاث الفلسطينيين من مدنهم وقراهم... وهي تعود مستوعبةً دروس معارك قرن من الحروب والانتفاضات، دروس الحركة الوطنية الفلسطينية بمختلف فصائلها، حكايات السلام الكاذب وجرائم الحرب، العنصرية المكشوفة ومشروع يهودية الدولة، وتواطؤ الغرب.. أصوات الأحياء والأموات من الفلسطينيين، أصوات أطفال المخيّمات، أصوات من تمتلئ بهم سجون الكيان الصهيوني، أصوات المحاصَرين في الضفة والقطاع، وأصوات من هدّمت بيوتهم اليوم في غزّة وانتصبوا واقفين أمام البحر وتحت أشعة الشمس... إنها تعود اليوم في موجة الاحتجاجات الطلابية العالمية، المتضامنة مع الشعب الفلسطيني. فكيف نعمل على تحويل الحراك الطلابي في بعض الجامعات الغربية إلى قوة ضغطٍ فعليةٍ وفعّالة؟ كيف نعقلن الاحتجاج الطلابي، ونجعله أداة تسمح بتجاوز جوانب من مآلات القضية في الحاضر؟

وقبل أن نجيب على هذه الأسئلة، يمكن أن نتساءل، أيضاً، عن أدوار شباب الجامعات العربية؟ ونتساءل ماذا تفعل الأنظمة العربية في مؤتمرات قممها، وقد أصبح من يُعدّون بياناتها الختامية يحرصون على إعداد صفحات بدون رأي ولا موقف، ولا خيار سياسي قادر على مواجهة ما يجري اليوم فوق أرض فلسطين؟ ومن حقّنا، أيضاً، أن نتساءل عن أدوار الشارع السياسي العربي، أدوار اليسار واليمين في موضوع الدفاع عن القضايا العادلة في التاريخ، وفي مقدّمتها القضية الفلسطينية، التي تتعرّض اليوم لجرائم حرب وإبادة، تتوخّى القِوى التي تقوم بها سحق شعب كامل بجنون... إن العطب العربي مركّب، ونتصوّر أنه يتطلّب اليوم حركة مركّبة من أجل أن نتمكّن، من مواجهة ما جرى ويجري فوق أرض فلسطين.

احتجاجات الطلبة في الجامعات الغربية تمهّد لمشروع ميلاد رأي عام جديد، يتحدّث لغة أخرى ولا يقبل السردية الصهيونية

لنعد إلى حراك الجامعات المتمثل في الاحتجاجات الطلابية الأميركية والغربية المتضامنة مع الشعب الفلسطيني، لنستمع إلى هدير أصواتها في المدرّجات وفي فضاءات الجامعة، حيث يحمل الطلبة العلم الفلسطيني، ويتغنّون باستقلال فلسطين. ولنسجّل هنا أن حصول ما نحن بصدده شكّل ويُشكِّل نقلة نوعية في تاريخ الصراع الفلسطيني الصهيوني، وهو خطوة مهمّة في باب كسر (وتجاوز) السردية الصهيوينة في موضوع الصراع وفي مستقبله... ويمكن أن ندرجه في باب أوسع يرتبط بموقف الشباب الغربي من بقايا الاستعمار. لنتذكّر أن الحراك الطلابي في الجامعات الأميركية والغربية يسقط اليوم كل ما بناه الإعلام الصهيوني في الجامعات، إنه اختراق مُماثل لاختراق الطوفان ليلة 7 أكتوبر أساطير الصهاينة وأحلامهم، وانتفاضة الطلبة مؤشّر قوي يُبرز أهمية ما حصل، رغم استمرار آلة الإعلام الصهيوني الغربي في الحديث عن "الإرهاب"، واستبعاده الكلّي مفردة المقاومة ومفردة مواجهة الفلسطينيين الاستعمار الصهيوني الاستيطاني من أجل التحرير، تحرير الأرض وبناء الدولة الفلسطينية المُستقلّة.

مارس الاستعمار الصهيوني الاستيطاني في فلسطين كل الوسائل التي تسمح له بترسيخ سرديّته، وتحويلها إلى أداة تتيح له مزيداً من اختراق المحيط العربي في المشرق وفي المغرب. ووجد في الدعم الغربي الإطار الذي هيأ له الوسائل التي تُمكِّنه من مزيد من الرسوخ، حيث ساهمت نوعية العلاقة التي رسم مع قوى الغرب الإمبريالي في منحه كل ما يساعده على مواصلة خدمة المصالح الغربية في المحيط العربي... وواكبت هذا الأمر أشكالٌ من التراجع، أوقفت مختلف أوجه المشروع النهضوي العربي في التنمية والاستقلال والتقدّم، فدخل مشروع استكمال التحرّر الوطني في فلسطين دوّامة السلام، كما رسم ملامحها إعلان المبادئ وسلطة الحكم الذاتي في الضفة الغربية وقطاع غزّة.

ما قام ويقوم به الطلبة اليوم في الجامعات الغربية يُعَدّ بمثابة مؤشّر على تحوّل في الوعي الدولي العام

نتصوّر أن احتجاجات الطلبة في الجامعات الغربية تمهّد لمشروع ميلاد رأي عام جديد، يتحدّث لغة أخرى ولا يقبل السردية الصهيونية... حيث يتغنّى الطلبة اليوم داخل محراب جامعة كولومبيا بأغنية المغني الأميركي ماكليمور "قاعة هند"، وهي أغنية احتجاجية مُساندة للفلسطينيين. تنتقد كلماتها التمويل الأميركي للجيش الإسرائيلي، وتدين القرارات الأمنية والسياسية، كما تنتقد الخلط الشائع بين معاداة السامية ومعاداة الصهيونية، تندّد بقتل النساء والأطفال والشيوخ وتدمير البنيات التحتية... وتشير أغنية "قاعة هند" إلى الطفلة هند رجب التي قتلتها القوات الإسرائيلية مع باقي أفراد عائلتها في غزّة بداية سنة 2024. وقد أُطلق اسمها على "قاعة هاملتون" في جامعة كولومبيا.

ساهمت عودة المقاومة في إحياء التقليد الثوري الطلابي العالمي. ونعتقد أن هذه الاحتجاجات تساهم اليوم، في تعزيز آلية الدعم العالمي للقضية الفلسطينية، كما تساهم في تعزيز وتيرة الضغط على الكيان الصهيوني، من أجل وقف العدوان وإنهاء الاحتلال. ما قام ويقوم به الطلبة اليوم في الجامعات الغربية يُعَدّ بمثابة مؤشّر على تحوّل في الوعي الدولي العام، وهو بمثابة دعوة إلى إعادة التفكير في القضية الفلسطينية وفي الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة بشراسة منذ أشهر.

نسمع أهازيج النصر التي تجري داخل أروقة بعض الجامعات الأميركية والغربية، ونقرأ حدث حصولها باعتباره مبادرةً تشير إلى تحوّلات في الوعي السياسي، سيكون لها ما بعدها، اليوم أو غداً... إننا نُعاين فيها زحزحة قوية لأساطير الصهاينة، ونتطلّع إلى بدايات مشروع رأي عام جديد، رأي عام يؤمن بالمقاومة الفلسطينية، وبالأدوار المنتظرة منها في باب التحرّر الفلسطيني القادم.

C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".