الطاغية المثقف والطاغية الجاهل
كان مما يقال في تفسير احتفاظ تونس بالحد الأدنى من روح وقيم ثورتها، ثورة الياسمين، في مقابل التآكل والاحتراق السريعين في ثورة يناير المصرية، أن مستوى التعليم وحجم الأمية، وعوامل أخرى ثقافية، ساعدت التونسيين، وخذلت المصريين. كانت النظرية الرائجة أن النكوص إلى حالة الاستبداد والطغيان يحتاج بيئة أقلّ تعليمًا وتنويرًا، فيما تكون لدى الشعوب المتقدّمة في لائحة التعليم والثقافة مناعة أكثر ضد السقوط في حبائل وألاعيب محترفي اصطياد الأمم بشعارات تمجّد الطغيان، وتراه ضمانة لبقائها والحيلولة دون انهيارها. .. حتى جاء قيس سعيّد رئيسًا لتونس، أكاديميًا ومعلمًا للقانون، وخطيبًا مفوهًا، يبدو مثقفًا مستنيرًا، وثوريًا وقوميًا، ثم سرعان ما خلع كل هذه الأقنعة، وارتدى أزياء الطغاة والمستبدين المعتمدة، فبان أنه لا فرق بينه وبين أي طاغيةٍ آخر، محدود الثقافة فقير الفكر، لكنه عسكري بيده سلاحٌ قابلٌ للاستعمال في وجه كل من يعترض طريقه.
مشهد قيس سعيّد وهو يصور إعلانًا بائسًا يزرع فيه شجرة، ويردّد عبارات مريرة الضحك عن معارضيه والمتظاهرين ضده في الميادين من المطالبين بكفّ يده عن العبث بالبلاد والارتداد بها إلى عصور سحيقة من التخلف السياسي .. هذا المشهد ينتمي إلى نسخةٍ قديمةٍ من كتب الاستبداد، من المفترض أنها من تراث الكوميديا السياسية الذي يقرؤه الناس ويضحكون عليه، مثل حكايات كليلة ودمنة، وروايات جورج أورويل القديمة.
غير أن المفاجأة الحقيقية، أن كوميديا الطغيان البدائية، المعبأة في الكتب القديمة، تجد لها سوقًا لدى بعض القطاعات هذه الأيام، ليس بوصفها مادّةً للتسرية والتسلية، وإنما باعتبارها اتجاهًا سياسيًا له جمهور ومؤيدون ومنتفعون من إحيائه.
كذلك، مشاهد أطفال، عمرهم من عمر ثورة الياسمين، وهم يؤدّون أغنية، كتبها ولحنها كبار من المستثمرين في إحياء نماذج الطغيان الغابر، تؤشّر إلى أن الطغيان ذرية بعضها من بعض، لا فرق بين مثقفهم وجاهلهم، أو بين ذي القشرة المدنية منهم وصاحب الجلد العسكري التخين، حيث تتعدّد الأشكال والأحجام، بينما الجوهر واحد: دكتاتور لا يترك وسيلةً من وسائل الاحتيال على الشعوب إلا ويستخدمها، مستعينًا بمجموعاتٍ تتشابه من صنّاع صورة المستبد الذي كان مختبئًا بين طيات القدر، ثم ظهر لينقذ البلاد والعباد، ويمنحها الخير والنماء، فيغنّي له الأطفال، ويصفق له الكبار ويتحدّث الكهنة عن معجزاته وقدراته الخارقة.
هو، وكما صوّره شاعر اكتوى بالطغيان وذاق مرارته، سلطان الله وظله على الأرض، وهو الامبراطور أو الملك الشمس، أو البطل المنقذ ، أو الزعيم المعلم والقائد الملهم، وهو الرجل الذي جاء على موعدٍ مع القدر، وهو فاتح ينابيع الخير ومفجّر الطاقات وواهب الإلهام للمبدعين، فالعقول والقلوب ملك يمينه، ومؤسّسات التفكير والرأي والتعبير تحت إبطيه.
تمتلئ البلاد بصوره وتماثيله وكلماته، ويكاد يكون القاسم المشترك في كل حديثٍ أو حلم أو غضب أو رضا، يحيط بالناس ويهبط عليهم هبوط الغربان من كل الأفق، المدارس والجامعات والمؤسسات باسمه، والطرق والجسور والمحطات والمشروعات باسمه، والساحات والميادين ما أقيمت إلا لإلقاء بياناته ونداءاته وحشر الناس إليه.
الشاهد أن كل الصور والنماذج العجيبة التي قابلناها في كتب الفلاسفة والحكماء عن طغاة الشرق والغرب، تبدو إذا ما وضعت أمام ما نشاهده يتحرّك أمامنا على الأرض العربية هذه الأيام، تبدو نماذج أكثر عقلانيةً وإنسانيةً مما يمارسه طغاة القرن الحادي والعشرين.
لكن المخيف حقًا أن ما كنّا نتصوّره من تطور سياسي وحضاري طرأ على مستوى النخب الثقافية والسياسية، وانتقل منها إلى الجمهور، هو افتراضاتٌ خاطئة، ذلك أن معطيات الصورة حولنا تنطق بأن حالة ارتداد عنيفة إلى قيم من العصور الوسطى قد وقعت.