الصحافة ليست هدفاً
يقول محاوري في المقهى القريب من الجامعة في مدينة كولشستر البريطانية إنه يتابع أحداث غزّة عبر شبكة بي بي سي من خلال تقارير مراسلها في غزّة، "رشدي أبو ألوف" كما يقول، مكرّرا اسم المراسل (رشدي أبو العوف)، مسرورا لقدرته على لفظ اسم المراسل. لنذكُر نحن أيضا أسماء مراسلي غزّة الذين يتساقطون يوميا، وأحدهم ينعى الآخر، وسط صمتٍ ولامبالاةٍ دوليين. لا يثير سقوط هؤلاء ضجّة في الأوساط الصحافية العالمية سوى توثيق منظمّات الدفاع عن الصحافة وتنديدات بعضها. لا توجّه أي أسئلة جدّية بشأن ما يبدو استهدافا إسرائيليا للصحافيين للتعمية على الإبادة الجارية في غزّة والاعتداءات المتواترة في الأراضي الفلسطينية.
احتفى مجتمع الصحافة، على حق، بدخول مراسلة محطة سي أن أن، كلاريسا وورد، إلى قطاع غزّة (من معبر رفح) لتكون أول صحافية غربية تغطّي عملية الإبادة الجارية من الداخل. قبل هذه المراسلة وبعدها، يعمل المراسلون المحليون ليل نهار على نقل مأساة أهلهم، إذا ما تمكّنوا من البقاء على قيد الحياة. دخول وورد إلى غزّة مهم، إذ يحمل رمزية شجاعة المراسلة، والمحطة التي تعمل لحسابها، في خرق الحظر الإسرائيلي على الإعلام العالمي للتغطية مباشرة من داخل غزّة وإخضاع أية مواد من الداخل لرقابة الآلة العسكرية الإسرائيلية. لم يصدُر أي اعتراض يُذكر من الإعلام العالمي على الحظر الإسرائيلي، والأرجح أنه لا يستطيع تحمّل كلفة إدخال مراسليه إلى قلب الإبادة. يذكّر دخول وورد قطاع غزّة بتجربة المراسلة البريطانية، ماري كولفن، التي تعدّ تغطيتها من مناطق النزاعات مثالا للتغطية الإنسانية، إذ اختارت أن تعيش مع الناس، لا أن تنقل فقط معاناتهم. قُتلت كولفن في فبراير/ شباط 2012 في غارة لقوات النظام السوري، حين كانت تغطّي حصار حمص، بعدما دخلتها سرّا من دون موافقة إدارة "صانداي تايمز" التي كانت تعمل لحسابها. في رسالتها الأخيرة، قالت كولفن إن ادّعاء النظام أن غاراته تقتل إرهابيين كاذب، إذ إن ضحايا وحشية النظام مدنيون في الغالب.
الغالبية العظمى للصحافيين الذين قتلهم الجيش الإسرائيلي إما قُتلوا في أثناء القيام بمهام صحافية أو في قصف استهدف منازلهم، ما يقدّم فرضية استهدافهم بصفتهم صحافيين.
لم يشهد نزاعٌ سابق ما تشهده الحرب الإسرائيلية على غزّة من تساقط سريع غير مسبوق للضحايا من الصحافيين والعاملين الإعلاميين، وفق لجنة حماية الصحافيين. قالت اللجنة إن عدد الصحافيين الذين قتلوا في الأسابيع العشرة الأولى من حرب إسرائيل على غزّة فاق عدد من قُتلوا في بلد واحد خلال عام بكامله. حتى كتابة هذه السطور، وبحسب المنظمّة نفسها، قُتل 69 صحافيا وعاملا إعلاميا منذ 7 أكتوبر، وبينهم ثلاثة لبنانيين. من المهم جدّا ألا يسقُط هؤلاء وسط صمت، أو أن يعتبر قتلهم أقلّ أهمية أو درامية من سقوط صحافي غربي ضحيّة نزاع. لا يثير مقتل صحافيي غزّة أي ضجّة تذكر، بما يتجاوز تعداد منظمّات الدفاع عن الصحافة أرقامهم، حتى أن منظمّة مراسلون بلا حدود قلّلت من هذه الأرقام بالقول إن العام 2023 أقلّ الأعوام دموية للصحافة، باعتبار أن القسم الأكبر من ضحايا الصحافة في غزّة لم يكونوا يمارسون مهام صحافية لدى مقتلهم، أي أنهم قُتلوا وعائلاتهم باعتبارهم مدنيين. وبحسب المنظمّة، سقط 13 فقط من مراسلي غزّة، بينما كانوا في مهام تغطية صحافية، ويرتفع العدد إلى 56 صحافيا إذا ما أضيف كل الصحافيين القتلى، سواء كانوا في مهمة صحافية أم لا. في الوقت نفسه، قدّمت المنظمة شكويين اثنتين لدى المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في ارتكاب إسرائيل جرائم حربٍ ضد صحافيي غزّة.
لنذكر أسماء هؤلاء الصحافيين قبل أن يتحوّلوا إلى مجرد أرقام أو يضيع الاعتراف بهم في متاهة التصنيفات بين من يعتبر ومن لا يعتبر ضحية صحافية: الصحافي في صحيفة الاستقلال، محمد نصر أبو هويدي، الإعلامي في منصّة ميدان، عبدالله علوان، الصحافي في وكالة فلسطين الآن، عاصم موسى، مراسل منصّة نيو برس، الصحافي رامي بدير، مصوّر قناة الجزيرة، سامر أبو دقّة (نزف لأكثر من خمس ساعات بعدما منع الجيش الإسرائيلي وصول سيارة الإسعاف إليه)، دعاء الجبور، علا عطا الله، الصحافية في شبكة ماجدات رفح، شيماء الجزّار، مصوّر وكالة الأناضول التركية، منتصر الصوّاف، وشقيقه المصوّر الحرّ مروان الصوّاف، الصحافي والأستاذ الجامعي أدهم حسونة، المصوّر في فضائية الأقصى، عبد الله درويش، الصحافية الحرّة، آيات خضّورة، مدير مؤسسة بيت الصحافة، بلال جاد الله، الصحافيَّان في مجموعة الأقصى الإعلامية، عمرو رباح أبو حية وعبد الحليم عوض، الصحافيَّان في شبكة القدس نيوز، حسونة إسليم وساري منصور ... لا يسع هذا المقال تعداد أسماء كل الذين قتلهم القصف الإسرائيلي، إلا أن غالبيتهم العظمى إما قُتلوا في أثناء القيام بمهام صحافية أو في قصف استهدف منازلهم، ما يقدّم فرضية استهدافهم بصفتهم صحافيين. في لبنان، قتل القصف الإسرائيلي مصور وكالة رويترز عصام عبد الله وطاقم قناة الميادين المراسلة فرح عمر والمصوّر ربيع معماري. وتوصّل تحقيق لمنظمة هيومن رايتس ووتش إلى أن القصف الذي أدّى إلى مقتل مصور "رويترز" كان متعمّدا.
بعدما كان شعار المنظمّات الحقوقية "الصحافة ليس جريمة"، بات اليوم "الصحافة ليست هدفا"
ليست شهادات هؤلاء الصحافيين في عملهم أو مقتلهم درسا في الصمود في ظروف أقسى من قاسية فحسب، وفرصة لمراجعة ما نعرفه (وندرّسه) عن تغطية النزاعات، انما أيضا موادّ أساسية في أي محاسبة مستقبلية لإسرائيل لارتكابها جرائم حرب. يروي مصوّر "بي بي سي" الخدمة العربية، جهاد المشهراوي، في تحقيق كيف أنه سار وعائلته بين الدمار والجثث المتحلّلة في طريق الهروب من غزّة، ويكتب أنه شاهد أربعة شبان معتقلين لدى القوات الإسرائيلية يُقادون خلف دمار مبنى، ليسمع بعدما صوت رشقات، في ما يبدو كأنه عملية تصفية لمعتقلين، كما نقل مراسلون محليون عديدون في الفترة الأخيرة. يغرّد الصحافي معتزّ عزايزة أنه يشعر بالتعب والألم لعزلته، بعد ما بات عديدون يطلبون منه عدم زيارتهم في منازلهم، خوفا من قصف اسرائيلي، حتى أن بعضهم بات يتفادى الوقوف الى جانبه.
بعدما كان شعار المنظمات الحقوقية "الصحافة ليس جريمة"، بات اليوم "الصحافة ليست هدفا". وإليه نضيف: العدالة لصحافيي فلسطين ولبنان الذين باتوا هدفا لآلة الحرب الاسرائيلية.