الشركات الأهلية وأحكام الزبونية السياسية في تونس

10 أكتوبر 2022

قيس سعيد في إعلان الشركة الأهلية في نابل (1/10/2022/صفحة الرئاسة التونسية في فيسبوك)

+ الخط -

لم تكن نخب ما بعد الاستقلال في تونس تستلطف مصطلح "الأهلي"، لما يحيل عليه، حسب اعتقادها آنذاك، من نزوع إلى النظام الاجتماعي والسياسي القديم. فالجمعيات الأهلية (الخيرية في مجملها) كانت قد ظهرت في سياق كولونيالي، مع بروز تضامنات تقليدية تقوم على قيم لا تخلو من الإخاء الديني أو التآزر الجمعوي، وهي في ذلك كله تستنهض أواصر الدين أو الدم ووشائج الجوار وغيرها. لذلك سرى، في خطاب هذه النخبة، مصطلح المدني، عوضاً عن الأهلي. كان هذا الخطاب يجري ضمن منظورٍ تحديثي، لا يخلو من تعسّف أحياناً. حرصت النخب التونسية التي قادت مسارات البناء الوطني مبكراً على تقليد المسار الذي اتّبعته النخب الفرنسية تقريباً. كان الجميع يعتقد أن الجمهورية تقتضي نقض القيم التقليدية وتفتيت كل أشكال التضامنات الأهلية، حتى يظل الجميع مشدوداً إلى سلطة الدولة المركزية تابعاً لها. ولم تطرح المعارضة التونسية التي ناهضت بورقيبة مقاومة هذه التصوّرات المفرطة في مركزيتها، بل استلطفت هذا التصوّر الدولتي للتحديث، وأقصى ما ناكفته منه استفراده بالرأي وميوله الليبيرالية الاقتصادية. ظلت تصوّراتها مجافية لكل أشكال التضامن الآلي بلغة دوركهايم. جرى حشر الجميع: قبائل وعروش ومناطق وجهات وفئات وإثنيات وطوائف في قالب الدولة الوطنية وصهرها فيه بكثير من العنفين، المادي والرمزي. كانت فكرة الهوية الوطنية قد أصابت النخبة آنذاك بهوس هووي، إلى حد ادّعاء أننا أمة ضاربة في التاريخ، في خصوصيةٍ جوهريةٍ لا مثيل لها.
خلال ما يناهز نصف قرن، سُلخَ المجتمع التونسي من كل الأنسجة الأهلية التي كانت تلفّ الأفراد في شبكات انتماء وهويات متعدّدة، وأُرهِقَت الدولة، حينما تكفّلت بكل شيء، وهي، في الأصل، عاجزةٌ، ليس لأن وظائفها محدودة، بل لأن إمكاناتها أصلاً لا تسمح بتحمّل كل هذه الأعباء. كشفت مناويل التنمية المتعاقبة عن عجزٍ بنيوي للدولة في الوفاء بالتزاماتها، خصوصاً في ظل الأزمات المالية والاقتصادية المتعاقبة. وبعد الثورة، أتيحت للجماعة الوطنية بدائل عديدة، خصوصاً في مناخ الحرية الذي أتاح الفرصة لمراجعات عميقة، سواء في وظائف الدولة أو في علاقتها بالمجتمع الذي لا يمكن نكران أنه كان تابعاً لها إلى حد الإذلال. ومع ذلك، ذهبت نقاشاتنا، أحياناً، في متاهات لغوٍ أيديولوجي سطحي يعود بنا إلى مربّعات البداية.

فكرة الاقتصاد التضامني حل ممكن، بدأ التفكير فيه جدّياً، حين تبيّن للجميع أن هناك بدائل أخرى

نصّ دستور 2014 على واجبات عديدة تلقى على مسؤولية الدولة، فيما ظلت تصوّراتنا لها مفرطة المركزية والتسلطية، ما كان يجري على الواقع هو انفصال تدريجي للمجتمع عنها: ذهبت فئات وشرائح عديدة تتدبّر شأنها بمفردها وبعيداً عنها: شباب ينشد الرحيل، ولو كانت المغامرة مميتة، فئات واسعة تنخرط في اقتصادٍ موازٍ، إلخ.
كانت فكرة الاقتصاد التضامني حلاً ممكناً، بدأ التفكير فيه جدّياً، حين تبيّن للجميع أن هناك بدائل أخرى، يمكن أن تساهم في التنمية الاقتصادية إلى جانب الدولة. ساهم الجميع في بلورة نقاشات عديدة عميقة وجدّية بشأن هذا الأمر داخل البرلمان وخارجه، في ظل نمو هائل للجمعيات والمبادرات من خارج الدولة. مشاريع صغرى، قروض، شركات صغرى تنطلق لأول مرة نوادي ابتكار، إلخ. حتى تم سنة 2020 سنّ قانون "الاقتصاد التضامني والاجتماعي"، عوّل عليه الجميع من أجل معاضدة جهود الدولة في مكافحة البطالة، وإيجاد فرص تشغيل تحفظ كرامة الناس التي من أجلها ثاروا. وكانت غاية القانون هذا، كما ورد في جل فصوله، وضع حد لتشتت الجهود وإحداث مؤسّسات جديدة، تكون أهدافها اجتماعية صرفة تنهض على التعاون الطوعي والمساعدة المتبادلة في انسجام مع مبادئ التنمية المستدامة والكرامة. كانت إحدى خلفيات القانون فكّ التبعية المذلّة بين الدولة والمجتمع من خلال البحث عن مصادر التمكين التي يختزنها المجتمع ذاته.

الدولة، من خلال ريعها الاقتصادي، متمثلاً بالشركات الأهلية ستنتج جيشاً من المساندين للنظام السياسي سيضمر المجتمع مقابل تغوّل دولة النظام

حينما كان الجميع، دولة ومؤسسات وجمعيات ومنظمات غير حكومية، يبحث عن أفضل السبل لتفعيل هذا القانون، وتجاوز بعض نقائصه، جدّ الانقلاب في صيف عام 2021، وكان هذا القانون أول ضحاياه. بادر النظام، وهو يرى جيشاً مؤلفاً من أكثر من مليون عاطل، إلى استمالته عبر الديماغوجية الشعبية التي أوهمته بأنه "صاحب  الثروة والقرار والسلطة". بعيد الانقلاب، بأشهر قليلة سنّ قانون خاص "بالشركات الأهلية" الذي أعاد إحكام قبضة الدولة على المبادرات الاقتصادية والاجتماعية، من خلال وهم تمليك الشباب مدّخرات الدولة وثرواتها. 
أشرف الرئيس قيس سعيّد، في الأسبوع الماضي، على انطلاق أول شركة أهلية في منطقة بني خلاد في الوطني القبلي (ينتسب اليها الرئيس). وكان هذا مثالاً سيئاً، فحضور الدولة في مثل هذه المبادرات، وحرصها على توظيف هذه الشركات الأهلية، إنما هو من أجل إحكام الزبونية السياسية. ستشكّل هذه الشركات إحدى أذرع البناء القاعدي الذي ينادي به الرئيس سعيّد. حين نتأمل القانون الانتخابي الذي أقصى الأحزاب السياسية بشكل ضمني، من خلال فرض نظام الاقتراع على الأفراد، يتبين لنا أننا ذاهبون إلى تفكيك الديموقراطية التمثيلية، وأن الدولة، من خلال ريعها الاقتصادي، متمثلاً بالشركات الأهلية ستنتج جيشاً من المساندين للنظام السياسي سيضمر المجتمع مقابل تغوّل دولة النظام. 

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.