تونس وما بعد الانتخابات

14 أكتوبر 2024

تونسي يصوّت في انتخابات الرئاسة في مركز اقتراع في أريانة (6/10/2024/Getty)

+ الخط -

أعلنت الهيئة العليا للانتخابات في تونس نتائج الانتخابات الرئاسية لتقرها بشكل نهائي، بعد أن أحجم المترشّحان عن الطعن فيها. أما المجتمع المدني فلاذ بالصمت، والأرجح أنه فعل ذلك خوفاً من أي تبعات واردة لأي طعن. مباشرة بعد إعلان النتائج بساعات قليلة، تصدر الهيئة العليا بلاغاً (بياناً) مفاده بأنها ستقاضي كل من تسوّل له نفسه التشكيك في الانتخابات، خصوصاً إذا لم تكن له إثباتات.

كانت النتائج متوقّعة في ظل كل العبث الذي تراكم في أسابيع قليلة من يوم الاقتراع. أقصت الهيئة المترشّحين بتعلات تعود، في مجملها، إلى مسائل تدور حول شبهة التزكيات وأخرى تبيّن للمحكمة الإدارية عدم جدّيتها فأعادت بعضاً من هؤلاء، وهم الذين يمثلون حقيقة مترشّحين جدّيين، يمكن أن يهدّدوا سعيّد في صناديق الاقتراع، غير أن الهيئة لم تعترف بالأحكام الصادرة عن المحكمة، التي أوكل إليها القانون حصرياً فضّ النزاعات الانتخابية. ثم ما لبث أن تقدّم نواب في مجلس الشعب بمبادرة تشريعية تزيح نهائياً المحكمة الإدارية عن النزاع الانتخابي، وتمنحه للقضاء العدلي، قبل نحو أسبوع من يوم الاقتراع. نافس سعيّد، بعد أن تمكّن من تجريف جل ما اعترضه، مترشّحان، أحدهما كان من أشد الذين دافعوا عنه منذ انتخابات 2019، وكان أول المهنئين له في بيته، واستمات في الدفاع عنه بعد انقلاب 25 جويلية (25/7/2021)، ونظم للغرض عدة تظاهرات، فضلاً عن ترويجه دستور سعيّد وكل أطروحاته. يرى زهير المغزاوي سعيّد بطلاً قومياً يخوض حرب تحرير وطنية حقيقية. فجأة، وقبل أسابيع قليلة يعلن ترشّحه للانتخابات الرئاسية، ويشن هجوماً عنيفاً على سعيّد واصفاً ولايته بأنها خراب غير مسبوق. لم يصدّق الناس هذه التحول الغريب، وظلوا يشكّكون في صدقية الرجل. أما المرشح الثاني فقد كان أحد رجال الأعمال، شاب ناجح جرفته السياسة، ليجد نفسه مسجوناً بتهم عديدة، مالية وشبهات فساد التزكيات. صدرت في حقّ الرجل في شهرين أو أقل أحكام ثقيلة، وصلت إلى أكثر من عشر سنوات سجن.

في مثل هذه المناخات، لم يكن فوز سعيّد مفاجئاً. ورغم ذلك، ساد وجوم في صفوف معارضيه وشعور عميق بالمرارة والخيبة. ظل بعضهم ينتظر معجزة تبوح بها صناديق الاقتراع. لكن عهد المعجزات ولى ولن يعود. لا ينتبه الناس، تحت وطأة الشعبوية والتلاعب بالأرقام، أن ما يفوق 70% من الناخبين لم يذهبوا إلى صناديق الاقتراع وواصلوا يوم الأحد، العطلة الأسبوعية، تسوّقهم. هم بين هذا وذاك يحتسون فنجان قهوة غدت نادرة طوال سنوات سعيّد الفارطة. يشاهد بعضهم على مختلف الشاشات مسلسلاتهم ومبارياتهم الرياضية المفضلة، تماماً كما حدث في عهد بن علي، حين يتأكّد الناس أن ليل الاستبداد يطول، يعمدون إلى حيل نفسية لا واعية، شكلاً من أشكال المناعة النفسية والذهنية التي تحول دونهم والانهيار: تتكثّف لديهم تربية القطط والعناية بالبيئة والغرام بالبرامج التلفزيونية التافهة، ولعب الحظ، فضلاً عن العرافة والشعوذة.

لا ينتبه الناس، تحت وطأة الشعبوية والتلاعب بالأرقام، أن ما يفوق 70% من الناخبين لم يذهبوا إلى صناديق الاقتراع

تحت وطأة الخيبة والصدمة، خصوصاً أنّ نسب التصويت لسعيّد قد فاقت 90%، وهي النسبة التي لم يفز بها بن علي في آخر انتخابات في عهده سنة 2009، هناك من سارع إلى توديع آخر أحلامهم باستعادة الديمقراطية، ملوّحين أنهم راحلون عن الدنيا الفانية، ولن ينعموا مرّة أخرى بالحرية، خصوصاً أنهم بلغوا من العمر عتياً. والمفارقة الغريبة أن جل الذين صوّتوا لسعيّد ينتمون إلى هذه الفئة العمرية بالذات. في حين طفحت صفحات "فيسبوك" بتدويناتٍ فيها إعلان التوبة من السياسة، والانسحاب من الشأن العام. بالغ هؤلاء في جلد الذات، واعتبار أنهم دفعوا أغلى سنوات العمر في الدفاع عن شعبٍ خذلهم في النهاية، وباعهم بأوهام فتكت بعواطفهم وعقولهم.

ستكون السنوات الخمس المقبلة من هذه الولاية امتداداً لما سبقها، رغم أن مدير الحملة الانتخابية للرئيس سعيّد، المحامي شفيق سعيد (شقيقه)، قال مباشرة بعد فوز الأخير إن العهدة المقبلة ستكون للتعمير والبناء في مناخ من الحرية، في تلميح مقتضب للتضييقات التي سادت في الخماسية الفارطة. ولكن، سيكون من الصعب على التونسيين تصديق ما يُقال إن انفراجاً قريباً ستشهده البلاد إيذاناً بمرحلة جديدة.

تؤكّد كل المؤشّرات أننا ذاهبون إلى ترسيخ ما عرفته البلاد خلال خمس سنين حكم فيها سعيّد وحده. لقد حاز مكاسب ما كان يحلم بها هو أو حلفاؤه. هل رأينا حاكماً يتنازل عن سلطته طوْعاً وحبّاً في الحرية والديمقراطية.؟ لا يشكو سعيّد من معارضة تُحرجه وتُجبره على التنازل، فلم يذهب في هذا المسلك؟

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.