السوريون بين فشلين
كأن مفردات اللغة العربية لم تعد كافيةً لوضع توصيفٍ دقيقٍ لما يدور في جنبات المأساة السورية، فما يجري في سورية، شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، يفوق قدرتنا على وصفه بكلماتٍ محدّدةٍ ومعتادةٍ، بيد أن اليقين أنّ السوريين باتوا يقبعون بين فشلين، ومحشورون بين طرفين صارت الحرب تمثّل لهما ترياقاً للحياة، ولو على حساب معاناة السوريين من المآسي التي جاءت بها 12 عاماً من الدمار والدماء والفقر والمرض والعوز والتشرّد داخل البلاد وخارجها.
في معادلة المأساة السورية، التي تعدّ من أكبر المآسي الإنسانية التي تشهدها المنطقة في العصر الحديث، النظام السوري في طرفها الأول، فكانت البداية مع اندلاع احتجاجاتٍ سلميةٍ في عام 2011، طالب فيها السوريون بحقوقهم وبحرّياتهم الأساسية، فشل النظام في التعامل معها بشكلٍ سلميٍ وبنّاءٍ، ما أدّى إلى تصاعد العنف وتحوّل الاحتجاجات السلمية إلى صراعٍ مسلحٍ، أدخل فيه النظام المليشيات اللبنانية والإيرانية والروسية وغيرها، فتطوّر الصراع، بمرور الوقت، إلى نزاعٍ داخليٍ مع مشاركة أطرافٍ إقليميةٍ ودوليةٍ، فكانت النتيجة فشل النظام في استعادة كامل سلطته وسيادته على الأرض السورية، فسُلِبَ قراره، وقُسّمت أرضه بين احتلالاتٍ متجاورة ومتزامنة، وسُلِبَت معه ثروات البلد ومقدّراته، فتضخّمت الأسعار وتدهورت قيمة العملة السورية وارتفعت معدّلات البطالة وتراجع الإنتاج والصادرات وارتفع معدّل الفقر واختفت الخدمات الأساسية وتدهورت البنية التحتية.
وعلى الطرف المقابل، تقع المعارضة السورية بكل أطيافها ومسمّياتها وتوجهاتها بعد تشتّتها وفشلها في تنظيم نفسها وتقديم صورة موحّدة وقوية للداخل السوري والمجتمع الدولي، رغم كل الدعم الذي حصلت عليه في البداية، فتعارضت أهدافها ورؤاها لمستقبل سورية، وانقسمت سياسياً حول مسائل عديدة مهمة ومصيرية، الأمر الذي عزّز التشتت، وساهم في ضعفها وزاد من تعقيد وضعها، وصعوبة هضمها داخلياً حتى باتت عبئاً على داعميها والمعترفين فيها خارجياً، إلى درجة تم فيها إدراج أسماء بعض قادتها على قوائم العقوبات الأميركية أسوة بمئاتٍ من شخصيات النظام السوري وقادته.
الحلول لا تزال تبدو بعيدة المنال، لأن العواصم الكبرى المؤثرة فعلياً منشغلةً بقضايا أخطر وأكثر مردوداً من الملف السوري
والمثير للدهشة والحسرة في آن أنّ هذه المعارضة السياسية التي رفعت شعار التخلّص من الأسد ونظامه لم تبذل أي جهدٍ حقيقيٍ لإظهار مؤسّسات المعارضة بأنّها قادرةٌ على قيادةٍ دبلوماسيةٍ وسياسيةٍ وحتى عسكريةٍ لثورةٍ شعبيةٍ قدّمت الكثير، واستطاعت كسر حاجز الخوف في دولةٍ أقل ما يمكن القول عنها إنّها بوليسيةٌ تُقاد من خلال الأفرع الأمنية، فاستسلمت إلى الأجندات الخارجية، وانغمست في الفساد والابتعاد عن البلاد والعباد، وصارت، بكل مستوياتها، تعيش خارج الحدود الوطنية بكل تفسيراتها، معتمدةً على الأمن المتاح لها في عواصم عدّة، جنباً إلى جنبٍ مع عائلاتها، واستثمرت بذكاءٍ قبيحٍ كل المعاناة، ففقدت ثقة الحاضنة الثورية، وخسرت أهم عوامل قوتها.
وما بين هذين الطرفين يقع ما تبقى من الشعب السوري يعاني من التجويع والذل والهوان والفقر والتشرد، وينزف الدم يومياً، لتظهر قصته كما لو أنها رموزٌ مؤلمةٌ وملهمةٌ في آنٍ معاً، جسّدت واقع الألم والخراب الذي لحق بشعبٍ كان كل همّه العيش بكرامةٍ من دون خوفٍ أو ملاحقاتٍ أو تمييز.
واليوم وفي ظل الظرف المعقّد الذي يعيشه السوريون بين حالة الحرب واللاحرب، يؤكّد الواقع أنّ الحلول لا تزال تبدو بعيدة المنال، فالعواصم الكبرى المؤثرة فعلياً منشغلةً بقضايا أخطر وأكثر مردوداً من الملف السوري، كما أنّ من الواضح أنّ الحرب لن تحقق من أهدافها أكثر مما تم تحقيقه.
في الختام، يمكن القول إنّ فشل النظام السوري خلال السنوات الماضية لا يعني بالضرورة نجاح المعارضة، كما أنّ فشل المعارضة لا يدلّل على نجاح النظام، فما بين فشل النظام بعد تجدّد الاحتجاجات والمظاهرات في مناطق سيطرته بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والأمنية، وفشل المعارضة بسبب سوء تنظيم نفسها وتمثيلها الثورة السورية في المناطق المحرّرة، يتوفر اليوم لدى السوريين في كل المناطق والمحافظات، ومن كل المشارب المذهبية والقومية والاتجاهات، ما يهيئ لولادة وعيٍ جديدٍ مشتركٍ، يمكن أن يُشكّل منطلقاً لإحداث تغييرٍ جذريٍ، شريطة أن تتوفّر لدى الفاعلين السياسيين الحساسية الكافية والإصرار الصلب والإرادة لاستغلال هذه الفرصة. وصحيح أننا ندرك صعوبة هذه المهمة، لأسبابٍ وظروفٍ ومعطياتٍ عديدةٍ، لكننا نؤمن بأنّها ليست مستحيلة، فالتاريخ علّمنا أنّ الأيادي المرتعشة لا تكتُب الصفحات الناصعة للتاريخ، وأنّ الفشل العام قد يكون منطلقاً لنجاحٍ عام.