السلطة الضميرية لدى الكاتب

13 أكتوبر 2020
+ الخط -

ما يثقل على الكاتب الصحافي، يشوّشه ويستنزف جهده ووقته، ليس كتابة مقاله اليومي أو الأسبوعي بانتظام، خصوصا إذا باتت الكتابة صنعته المفضلة، وصارت هذه المهنة شغله الشاغل، وربما مبرّر وجوده، وإنما ما يُضني الكاتب كثيراً، ويعذّبه أكثر، هو الوقوف حائراً بين العناوين المثيرة لاهتمام الرأي العام، ومكابدة مشقّة الإختيار بين هذا وذاك، ومن ثمّة الرسو بقاربه الصغير على شاطئ قليل الأمواج. إذ غالباً ما يجد الكاتب نفسه كمن يقف على مفترق طرق، يسائل ذاتَه بإلحاح، أيّ الدروب أجدى لإيصال الرسالة بلا عناء، وأي الدلاء أنسب لغرف قدر ملائم من الماء من دون تقتير ولا إسراف؟ 
الإشكالية هنا، أنه فوق سلطة القانون التي يخضع لها الكاتب، أسوة بغيره من الناس الراشدين العاقلين، يخضع هذا الكائن المرهف أيضاً لسلطةٍ تتربع فوق كل السلطات النافذة، سلطة ضميرية خاصة به، دكتاتورية متبصّرة، وشمولية في أغلب الأوقات، يتقبل أحكامها بصورةٍ لا تقبل السجال الداخلي المستفيض، يطيع أمرها من تلقاء نفسه، يصغي لأحكامها بانتباهٍ شديد، يستجيب لنواهيها عند أول وخزة داخليةٍ طفيفة، ويظل على حالٍ تماثل حال أبي الطيب المتنبي "على قلقٍ كأن الريح تحتي".
ولمَ لا والكاتب القلق هو صوت الذين لا صوت لهم، قلمهم وقرطاسهم، قمرهم في البيداء وحادي عيسهم، خصوصا إذا أقام هذا الورّاق سلطته الضميرية المستقلة فوق قاعدة الحق والنقد والعدل، ورفع سقفها بيديه العاريتين، عالياً، إلى سنام الحرية، كي يستحق عندها، بلا مراء، انتزاع لقب الكاتب بجدارة، وينال شرف الإشتغال بمهنة الكلمة بشجاعة، وله بعد ذلك أن يعتدّ بنفسه، وأن يرى في ذاته ممثلاً شرعيا لمجتمعه، وناطقاً وحيداً باسم ضمير هذا الملكوت الغامض الخفي، أو قل هذا السيد الحر المستقل عن غيره من العوالم الخارجية؟
بكلام آخر، السلطة الضميرية تضاهي لدى الكاتب سلطة القاضي التقديرية منزلةً، وتجاريها رصانة، لا تتثاءب مطلقاً ولا تتعامى، وهي بهذه المكانة الرفيعة تصبح هي السلطة الأعلى بين منظومة السلطات التي يقع الكاتب تحت مظلّة قيودها، وهي بهذه الصفة تقوم لديه في بلاط صاحبة الجلالة مقام سيدته الأولى، يصدع لجور صولجانها بلا مناقشة، ويحبها من طرفٍ واحد. وأكثر من ذلك، لكل واحد من المتبتّلين في محراب الكلمة، صورة لذاته عن ذاته في مرآته الفردية، يتعبّد تحت قبابها آناء الليل، تقياّ نقياً نقدياّ، ذا رسالة تنويرية، يؤدّيها بجرأة أدبية، ويدافع عنها ببلاغة، ويتحمّل أوزارها كاملة غير منقوصة.
من الطبيعي أن يتباين الكتّاب في تقديراتهم، بل يجب أن يتباينوا في آرائهم من أجل إثراء الحوار، وأن يختلفوا في مقارباتهم للتطورات باختلاف مرجعياتهم الفكرية، وخلفياتهم المعرفية، ورؤاهم السياسية، ومثلهم العليا، وفهمهم للمسائل الإشكالية المطروحة عليهم، الأمر الذي يشكّل، في نهاية المطاف، لوحة فسيفسائية من الآراء والتقويمات والمواقف المعبرة عن اتجاهات المزاج العام في لحظةٍ ما، ويقيم، في الوقت ذاته، التنوّع الصحي المحمود، المعبر عن مفهوم التعدّدية الفكرية، وتقاليد الصحافة الحرة المستقلة، المعمول بها في المجتمعات التي تكافح ضد السلطوية والاستبداد والأحادية.
وبالانتقال من فضاء التجريد والمطلقات إلى واقع التطبيق العملي لمفردات السلطة الضميرية هذه، نجد فيضاً من التعارضات الفكرية المفهومة، والإختلافات المقبولة بين أصحاب مهنة المتاعب والفقر والشهرة، وذلك بفضل الإجتهادات المختلفة، والمعالجات المتباينة بتباين الدوافع والأفكار والتفضيلات الخاصة بكل صاحب رأي على حدة، الأمر الذي يثري الحياة السياسية والثقافية بالضرورة، ويقدّم للمتلقّين طيفاً واسعاً من البدائل والإختيارات والرؤى، في المجتمعات الواقعة في منزلةٍ وسطى بين فضاء الحرية الواسع ودرك الإستبداد الظالم.
وهكذا، تبدو صفحة الرأي في اليوميات، بل وفي اليومية الواحدة، أشبه ما تكون بحديقةٍ غنّاء ذات أزهار متنوعة، تنبت على سياجها، في بعض الأحيان، أعشاب ضارّة، أو قل أفكاراً شاذّة، وآراء صادمة للضمير العام، إلا أن ذلك لا يُخرج، بل يجب ألا يُخرج، غليظي القول من فضاء الرأي والرأي الآخر، وألا يوقع عليهم عقوبة التهميش والإقصاء بجريرة مفارقة الضمير الجمعي الأكثرية، فهم، في التحليل الأخير، أصحاب مواقف مخالفة، وإن كانت مرذولة، وبالتالي هم ذوو وجهات نظر مفتوحة للسجال حتى النهاية، حتى وإن كانوا على الجانب الخطأ من التاريخ.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي