الرياضة والوباء .. نجومية وثراء وتضامن
وضعت لاعبة التنس التونسية، أنس جابر، التي ارتقت إلى المرتبة الثالثة والعشرين عالميا، مضربها في مزاد علني، لتتبرّع بثمنه إلى بلدها في مواجهة محنة الوباء التي تحصد أرواح المئات يوميا، فقد أعلنت وزارة الصحة أن عدد الوفيات بلغ يوم 15 يوليو/ تموز الجاري 205. لم تنتظر اللاعبة كثيرا حتى تم اقتناؤه، وبمبلغه اشترت معدّات طبية تبرّعت بها إلى مستشفيات عمومية. صورة اللاعبين، وخصوصا النجوم منهم، لدى أوساط واسعة من الرأي العام منها، ليست دوما على أحسن ما يرام، فهم أثرياء حتى البذخ، يتجاوز مصروفهم اليومي مصروف أحياء كاملة، تنتشر في أحزمة الفقر لأشهر. ثمّة من يمتلك طائرات ومزارع ومتاجر، بل يملك بعض منهم جزرا خاصة، يبددون أموالا مهولة في سهرات صاخبة وألعاب القمار. ومع ذلك يقدّم بعض اللاعبين نماذج مغايرة عن هذه الصور، حين يرسمون لأنفسهم صورا أخرى، تشذ عن هذه القاعدة، بل تسفهها، على الرغم من ثرائهم.
كان جيل التسعينيات يتذكّر اللاعب جورج واياه الذي كان يتبرّع لبلده ليبيريا بأقساطٍ مرتفعة من أمواله، وهي التي كانت آنذاك تغرق في الفوضى والحرب الأهلية، من أجل النهوض بالشباب، وخصوصا قاطني أحزمة الفقر. لم ينس اللاعب، وهو الذي فاز سنة 1995 بجائزة أفضل لاعب في العالم وأوروبا وأفريقيا، مآسي الفقراء والمحرومين. كان هذا العمل التطوعي، والتصاقه بأبناء حيه الفقير، كلارا تاون، في مدينة مونروفيا، بداية انشغاله بالشأن العام، وأولى حالات افتتان اللاعب بالقضايا الاجتماعية العادلة خارج سحر الكرة وملاعبها.
حلّ الوباء وهجر عشاق الألعاب الجماعية والفردية الملاعب، لتجري المباريات والمناسبات، حتى أكثرها شراسة وحماسة، بعيدا عن الجماهير
مصائر اللاعبين، بعد انتهاء المسيرة الكروية، مرعبة ومخيفة. ومع ذلك، ثمّة من يعدّ له للتخفيف من حالة الفراغ ومخاوف النسيان، فيختار أن يبقى في أحضان الكرة: التسيير الرياضي، أو التدريب، غير أن آخرين يختارون مسالك أخرى: الاستثمار، الفن، وحتى السياسة. نافس جورج واياه خصومه من السياسيين، حتى تولى منصب رئاسة الجمهورية في ليبيريا، ولا أحد يعرف إن كان رئيسا ناجحا بقدر نجاحه لاعبا، ظل سنوات عديدة يصنع المعجزات بقدميه، حين تساق إليهما الكرة.
حلّ الوباء وأصيبت الرياضة في مقتل، وهجر عشاق الألعاب الجماعية والفردية الملاعب، لتجري المباريات والمناسبات، حتى أكثرها شراسة وحماسة، بعيدا عن الجماهير. وظل عشاقها ينتظرون أكثر من سنة حتى يعاد فتح الملاعب. كان كأس أوروبا الذي توزّع على عدة دول قد أعاد الروح إلى الملاعب التي ظلت مهجورة خلال أكثر من سنة. وليس من المصادفة في شيء أن يتزامن تقريبا مع كوبا أميركا. كانت هذه التظاهرات الكروية المرموقة قد وضعت حدا للكساد الكروي الذي طال. مع ذلك، ستجري الألعاب الرياضية الأولمبية في طوكيو خلال أيام، من دون حضور جمهور، فقد أفسدت سلالة دلتا المتحوّر من هذا الفيروس العنيد كل الترتيبات. فعلى الرغم من التعبئة الإعلامية الكبيرة، لم يبد الرأي العام الياباني أي حماسةٍ لها، باستثناء جمهور قليل، غير أنه سرعان ما أصبح مناهضا لها، حين بدأت أولى الحالات بالانتشار، خصوصا في ظل بطء عملية التلقيح، وتحفظ اليابانيين تجاهها. على خلاف ذلك، استطاعت مباريات كأس أوروبا أن تشدّ الأنظار إليها، خصوصا وقد انتظمت في ما يشبه الهدنة التي منحت أوروبا راحةً مطولة نسبيا، قبل أن تبدأ بعض العواصم الأوروبية، وكبرى مدنها، فرض الحجْر الصحي مجدّدا.
ساهمت مبادرات رياضية عديدة في مقاومة معلنة مرة أخرى، إلا أنها ما زالت، وإن أصبحت أسيرة قبضة المال والإعلام، وفية لبعضٍ من القيم الأولمبية
ليست الرياضة مجرّد لعبة، فهي علاج نفسي اجتماعي، إذ بإمكانها أن تخفّض من نسب التوتر والعنف الذي شاع في أكثر من مكان وقطاع، والناس يرزحون تحت الوباء، فتضيق عليهم الفضاءات والأزمنة. لقد غدت الرياضة، وكرة القدم تحديدا، اقتصادا تتنافس الشركات الكبرى على صناعته وتوظيفه دعاية وتأثيرا. سيشكر منظمو كأس أوروبا وكأس أميركا كورونا ألف مرة، حين تراجعت وسلمت لهم مفاتيح الملاعب والمطارات والمرافق التي تقتضيها مثل هذه التظاهرات. ولكن الناس لن يتذكّروا تلك الأهداف الجميلة والكؤوس المرفوعة والأبطال الذين يستقبلهم رؤساء العالم أبطالا وطنيين فحسب، بل سيتذكّرون أيضا حركات نبيلة ورشيقة، لا تقل رفعةً عن تلك الأهداف، انتصارا لقضايا إنسانية، رأفت لها ضمائرهم. باع اللاعب كريستيانو قميصه، من أجل المساهمة في علاج طفل صربي خلال الربيع الفارط.
كما صفق أحرار العالم كثيرا لفريق ريال مدريد، حين ألغى مقابلةً كانت ستجمعه مع فريق إسرائيلي في القدس المحتلة، وكان ذلك مؤشّرا مهما على أن اللعبة يمكن أن تنتصر للقضايا العادلة، ويمكن أيضا أن تساهم في التعريف بها. ساهمت مبادرات رياضية عديدة في مقاومة معلنة مرة أخرى، إلا أنها ما زالت، وإن أصبحت أسيرة قبضة المال والإعلام، وفية لبعضٍ من القيم الأولمبية، ولعل أسماها على الإطلاق التضامن الإنساني.