"الديمقراطية" في سورية تحت النار
يقطف السوريون اليوم الاثنين نتائج "ديمقراطية النظام"، بانتخاب مُمثّليهم في مجلس الشعب، ليعيشوا حالةَ اطمئنانٍ على "مصالحهم" المفقودة، التي لا يزالون ينتظرون من يدافع عنها منذ أن استولى النظام السوري، عبر حزب البعث العربي الاشتراكي (الحاكم)، على تمثيل الشعب في مُؤسّسات الدولة كلّها، وامتلاكه حقّ توزيع مناصبها على الموالين لزعمائه، من أحزابٍ وشخصياتٍ مُستقلّة، هدايا ومكافآتٍ عينية، فتحوّلت المهام النيابية لأعضاءَ كُثرٍ في المجلس من مسؤولية تمثيل الشعب إلى التمثيل عليه، واتخاذ ما يتوافق ويدعم إجراءات الحكومة التنفيذية بأشكالها الوزارية والأمنية والعسكرية كلّها، ومجاراتها في قراراتها، فأَمِنَت مُحاسبته، بعد أن انتزعت مخالبه بتقييدها قبول الترشيح، وميزان النجاح، بالموافقات الأمنية والحزبية والقدرات المالية.
صحيحٌ أنّه لا جديد يُذكر في الحياة البرلمانية السورية منذ اندلاع الثورة عام 2011، أي في معايشة السوريين ثلاثة أدوار تشريعية قبل أن يعبروا إلى الرابع اليوم، إلّا أنّها، ومع كلّ استخفاف "المعارضة" بها، تُعَدُّ واحدةً من أدوات النظام لتأكيد استمرارية سلطته على مُؤسّساته، ومنها مجلس الشعب، الذي "يُقونِن" النظامُ وجودَه وتحرّكاتِه سياسياً عبره، قبلنا بشرعية انتخاباته أو لم نقبل، وهو يُصدِّر هذا المشهد إلى الخارج وفي الداخل لتأكيد حالةٍ "دولتيّةٍ" طبيعيةٍ تعيشها سورية، رغم الانهيار الاقتصادي والمجتمعي، والاحتلال والفوضى، والحرب التي يشنّها في مناطق معارضته.
ولعلّ تصدير بعض الأسماء لتمثيل السوريين في هذا الدور، كما هو حال سابقه، من تلك التي تطاولها انتقادات عميقة، سواء بشأن سيرتها المهنية أو وعيها الثقافي أو"البرتوكولي" والمجتمعي أو سجلّها الجنائي، لا يمكن إدراجه تحت باب "الغشمنة" الأمنية، وإنّما هي صراحةٌ لتأكيد صورةِ النظامِ الذي ينتقيها، ويسمح وفق قوانينه بترشّحها، ويُساندها حتّى نجاحها، ويضعها تحت القبَّة التشريعية التي تتحمّل مسؤولية ما يصدر عنها، وما تسكت عنه، من تشريعات أو مراسيم وقرارات، ليقال للسوريين هذه "خياراتكم"، رغم براءتهم منها، حتّى لو اقترعوا عليها تحت ضغط الحاجة أو الخوف والترهيب.
وفقاً لذلك، لا يتحمّل مُرشّحون كثيرون عناء انتقاء برامجهم الانتخابية، فهم يردّدون ما اعتاد الشعب سماعه من سابقيهم، يمنحونهم الوعود نفسها من تلك التي تلامس احتياجاتهم المعيشية على بساطتها، من دون أن يَقرَبوا أيّ ملفّات سياسية أو أمنية تُؤسّس مشهداً سياسياً جديداً في البلاد، في تخلٍّ واضحٍ أو معرفة سابقة بحدود ما تعنيه هذه المكافآت "المناصبية" لهم.
يعيش السوريون في مناطق النظام عُرسهم "الديمقراطي" ضمن أدنى السقوف لأيّ مطامعَ في تغيير يُحدِثه أصحاب العُرس أنفسهم
فحيث غابت السياسة عن مجلس الشعب منذ انتخابات 1973 (بعد أن صارت بقوائمَ مُغلَقةٍ على الجبهة الوطنية التقدّمية، التي يقودها حزب البعث وتشاركه الأحزاب الموالية له) غابت معها آمال السوريين في انتخابات حقيقية تفرز من يُمثّلهم في الجلوس على المقاعد النيابية من أمثال سعد الله الجابري (1947)، الذي رفض الامتثال للأوامر الفرنسية بالسماح لحامية مبنى المجلس النيابي تأدية التحيّة للعلم الفرنسي في أثناء إنزاله من على ساريته في دار الأركان الفرنسية، التي تقع في مقابل المجلس، ولعلّ النظام السوري، من دون أن يدري، أعاد إلى ذواكر السوريين معنى النائب البرلماني السياسي والمُؤتمَن على البلاد وقيمتَه، من خلال عرض مسلسل "تاج" للكاتب عمر أبو سعدة والمخرج سامر البرقاوي، ما يُبقي كلّ المتنافسين اليوم على مسافة بعيدة من هموم المواطنين، التي تتمثّل أولاً بتأمين بيئة سياسية آمنة لأولادهم، لإعادة إحياء اقتصادهم المتهاوي، أو قاب قوسين أو أدنى من الموت الأبدي.
إذاً، والسوريون في مناطق النظام يعيشون عُرسهم "الديمقراطي" ضمن أدنى السقوف لأيّ مطامعَ في تغيير يُحدِثه أصحاب العُرس أنفسهم، وتنطلق قوافل الموظفين لممارسة واجبهم "الوطني" في توثيق ممارسة الانتخابات، يعيش من تبقّى من السوريين في المناطق خارج سيطرة النظام من دون أن يكون لهم الحقّ ذاته في خداع أنفسهم، وممارسة ديمقراطية صورية، ما يعني أنّ قوى الأمر الواقع، من هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) إلى قوّات سوريا الديمقراطية (قسد) وفصائل المُعارضة، لم تستطع أن تُقدِّم بديلاً يُحتذَى به في تمكين السوريين من حكم أنفسهم، وفي اختيار من يُمثّلهم تنفيذيّاً أو تشريعيّاً.
ويمكن القول إذا كان محمّد قبنض، وهو أحد أشهر المُرشّحين لإعادة انتخابه لعضوية الدور التشريعي الجديد، يُمثّل واجهة المال والثقافة وصناعة الفنّ للنظام السوري، فإنّ المعارضة لم تنتج عبر الـ13 عاماً الماضية ما يمكن تقديمه بديلاً أفضل، في أيّ من مناطقها التي حكمتها، وربما يكون بروز أسماء فيها من أمثال زعيم فصيل سليمان شاه، محمّد الجاسم (أبي عمشة)، هو الموازي في المعارضة لما وصل إليه حال التمثيل الشعبي في جهة النظام، وهو ما لا يُبشّر أنّنا مقبلون على ما هو أكثر من " ديمقراطية" تحت النار، أي اختيار من يُؤيّده سلاح الحاكم عند النظام، أو عند هيئات مُعارَضته، المدنية والعسكرية منها.