الخبز والحرية وإلهام شاهين
في مداخلة تلفزيونية قبل أقل من سنة، أعلن عبد الفتاح السيسي أنه جاهز بالدعم والتمويل لكل إنتاج درامي يروّج سياساته في تجديد الخطاب الديني والتعليم والاقتصاد والتنمية، بل أنه حدّد في الاتصال الموضوعات التي يتعين على صناع الدراما أن تكون محورها.
"لو فيه كتّاب موهوبين زي حضرتك وآخرين أنا ما اعرفهمش، تصدّوا لده (لهذا وكتبوا) أنا بقول من دلوقتي أن دعمي لهذا الإبداع سيكون ضخم جداً، وأنا مجهز له كويس". وتابع: "الدعم ده مش الدعم الثاني" (يقصد دعم الخبز). قالها السيسي للسيناريست.
ومنذ وقت بعيد، صارت صورة السيسي محشورة عنوة في واحدةٍ على الأقل من حلقات مسلسلات تلفزيونية، منتجة حسب المواصفات التي يريدها .. مرّة يظهر بصوته الذي يُقحمه الكتّاب والمخرجون في السياق الدرامي، يتحدّث عن ذوي الاحتياجات الخاصة، أو ذي الهمم وفق التعبير المعتمد .. ومرّة يظهر صورة وصوتًا وهو يُنعم بالرعاية والتكريم للحاصلين على ميداليات في منافسات رياضية دولية، باعتباره مخترع الأبطال الأوليمبيين. ومرّات يظهر في حوارات الشخصيات الدرامية، وهو يقدّم دعاية فجة ومباشرة لمشروعاته في سياق أحداث المسلسل.
كل هذا الدعم وكل هذه الميزانيات المفتوحة، لتحويل ثرثرة الجنرال إلى أعمال تلفزيونية درامية، يقابله من الناحية الأخرى رفع الدعم الواجب والمطلوب من الدولة للسلع الأساسية، مثل الخبز والوقود والخدمات الأساسية، مثل الصحة والتعليم والسكن، والتي تشكّل جميعها ما يعرف بالحقوق الأساسية للمواطن، في تزامن مقصود مع مصادرة حقوق الإنسان، بالمفهوم الحقيقي لهذه الحقوق ومعاييرها المعتمدة على مستوى العالم، وهي حرية التعبير وحرية الاختيار السياسي والحق في الاختلاف والاحتجاج، والحق في عدالة قضائية بما لا يتعارض مع الدساتير التي تكفل هذه الحقوق.
لكن ما يحدث فعلًا هو مصادرة حقوق الإنسان، أو بالأحرى حقوق الجزء الإنساني الخالص من الإنسان، وهي حرية التفكير والاعتقاد والتعبير، تحت زعم إن حقوق الإنسان، كما يفهمها السيسي، هي الغذاء والعلاج والسكن، وهي أشياء كما ترى من الممكن أن يتشارك فيها الإنسان مع أي كائنٍ حي آخر، ومن ثم هي تشمل الجزء الطبيعي البيولوجي من الإنسان.
حتى هذه المزاعم المتعلقة بالتضحية بالحرية من أجل الحصول على الخبز، يتّضح أنها غير صحيحة وغير متحققة في الواقع الذي ينطق بأنه ليس ثمّة خبز ولا حرية، بمعنى أنه لا دعم للحقوق الأساسية، ولا اعتبار لحقوق الإنسان بما هو إنسان، فيما ينصرف الدعم بسخاءٍ أقرب إلى بذخ السلاطين في أشد عصور الاستبداد في الإنفاق على ما يُطرب الحاكم ويحوّل أضغاث أوهامه وشطحات أحلام مجده الشخصي في صناعة صورة له كبطل أسطوري.
الدعم يذهب بحماس وإصرار شديديْن على إنتاج أعمال درامية لا تعالج قضايا الناس ومشكلاتهم وهمومهم الحقيقية، بل يذهب إلى أعمال تستفزّ الجماهير وتهينهم في كرامتهم الإنسانية، وفي معتقداتهم، فتقدّم الدين الإسلامي مرادفًا للإرهاب، من خلال التركيز على أعمالٍ تستهدف، بشكل مباشر، تحويل مزاعم الجنرال وأصدقائه وداعميه وأنشطتهم، في استثمارات الحرب على الإرهاب، إلى نظريات وثوابت عقدية ووطنية، كما تطرح المعارضة والثورة بوصفهما مؤامرة تخريبية لهدم الأوطان.
في هذا المناخ الهستيري، تندلع أفيشات دراما إلهام شاهين الرمضانية، فتغرق لوحات الإعلانات في الشوارع والطرق بصورها وهي ترتدي أزياء داعشية، مطبوعًا عليها شعار التوحيد، لتصدير صورة درامية تتّسق مع ثرثرات الجنرال المستمرّة التي لا تتحدّث عن الإرهاب إلا باعتباره إسلاميًا، وعن الداعشية إلا بوصفها الإسلام السياسي، وهي التيمة الثابتة في دراما رمضان خلال الأعوام الفائتة، كما في مسلسل "الاختيار" بأجزائه، والذي وصل الجنون ببعضهم إلى المطالبة بتدريسه للتلاميذ في مادة التربية الوطنية، وغيره من مسلسلاتٍ تشتغل على هذا الموضوع.
صورة تصلح للتصدير إلى مجانين اليمين المتطرّف حول العالم، وعلى نحو خاص إلى الأصوات العنصرية في الاتحاد الأوروبي، الذي يحميه السيسي من شرور وأخطار الهجرة غير الشرعية للإرهابيين، الذين هم في هذه الحالة كل من يبحث عن ملجأ من الطغيان والاستبداد.
لصناعة مثل هذه الصورة يحترق الخبز وتصادر الحريات باعتبارها من الممنوعات والشرور، فينتعش محصول إلهام شاهين، وتزدحم الأسواق بدراما الحرب على الإرهاب، فيما تتواصل عمليات الحرب على الإنسان، حقوقه وحرياته، وبكلمة واحدة: إنسانيته.