الحجاب والحرية

13 نوفمبر 2022
+ الخط -

دعت الممثلة الفرنسية من أصل جزائري، إيزابيل عجاني، النساء المحجّبات في فرنسا إلى القيام بخطوة، اعتبرت أنها ستكون تجسيداً للجرأة وللتحرر، تتمثّل بخلع حجابِهن، للتعبير عن التضامن مع معاناة النساء الإيرانيات اللواتي، كبقية شعبهن، يتعرّضن لعسف السلطة وتحالف المصالح الاقتصادية مع الشعبوية الدينية مع التسلطية الذكورية. وقد انتشر هذا النداء بشكل واسع في وسائل الإعلام الفرنسية التي ما فتئت تسعى إلى حصر ما تشهده الساحة الإيرانية من احتجاجات، بتخلّص المرأة من حجابها المفترض أنه مفروض عليها من سلطة دينية أو هيمنة ذكورية، وكلتاهما تلتقيان على عدم الاعتراف بقدرة المرأة على اتخاذ قرارها الشخصي، النابع من قناعة ذاتية بوضع الحجاب أو رفعه. كما تلتقي مع هاتين السلطتين القمعيتين إرادة وسائل الإعلام هذه، بعدم التمييز بين الإرادة والفرض. وقد انضمّت إلى جوقة الحصر التبسيطي للمسألة الإيرانية بقضية الحجاب، على أهميتها، فئة من العرب الذين حاولوا بذلك تقديم "أوراق الاعتماد" على أنهم "علمانيون مندمجون" في المجتمع الفرنسي.

كيف لا، والطرفان، أي الإعلام الفرنسي أو بعضه الشعبوي، والباحثون من العرب عن الرضا الغربي أو كارهو الذات منهم، لا يتردّدون في مدح ما يجري في السعودية من تغييراتٍ شكليةٍ محصورة بالمظهر الخارجي، وخصوصا المرتبط بالمرأة، بعيداً عن أي تغيير بنيوي يمسّ عمق المشهدين، الاجتماعي والسياسي. فاحتفالات الهالوين مثلاً تُترجم لديهم مؤشّرا حقيقيا للبرلةٍ اجتماعية. على الرغم من وضوح المشهد الذي ينقل تغييرات تزيينية في واقع الحال بعيدة كل البعد عما يُراد لها أن تُظهر به من القائمين عليها ومن مروّجيهم.

تحرّر المرأة لا ينحصر برفع الحجاب المفروض عليها، ولكن أيضا بإبقائه إن كان من اختيارها وبناء على قناعتها

واستباقاً لردة فعل غاضبة من متطرّفين ومتطرّفات نسويتهم غير ناضجة ولا يميزون بين سيمون دي بوفوار ونادية الجندي، ما ورد أعلاه لا يُقصد به ألبتة الاستخفاف بأمرين سيقفز إليهما متصيدو فرص الانقضاض على الآخر قبل فهم ما يتناوله. فمن المحتم بالنسبة لكاتب هذه السطور أن موقع المرأة في المطلق مهم بدرجة أهمية موقع الرجل، ولا انتقاص ألبتة من ضرورة المساواة الكاملة في كل الحقوق وفي كل الواجبات. ثانياً، دور المرأة الإيرانية أساسيٌ ومهم في الحركات الاحتجاجية في الأسباب وفي المآلات. ليس الإيرانية فحسب، فقد أبرزت الأحداث أخيرا في منطقة الشرق الأوسط الدور الأساسي والمهم للمرأة في العمل الثوري بأبعاده الإيجابية كلها كما وفي صنع السلام ومسارات المصالحة وإعادة الإعمار المادي وغير المادي. إنهن كنّ دائما في مقدّمة ضحايا الصراعات المسلحة، كما كنّ ضحايا الاستغلال والتهديد والمقايضة الرخيصة من مسلحين سلطويين أو مسلحين ظلاميين. وقد تعرّضن للتهميش من الإدارات التسلطية كما من الجهات المعارضة، وهما طرفان هيمنت عليهما العقلية الذكورية الرجعية ذاتها. اتفقنا إذاً على أنه لا يوجد أي انتقاص من دور المرأة بوصفها عنصرا فاعلا ومؤثرا ولا تخفيف من أهمية (ورمزية) الخطوة التي أقدمت عليها نساء إيرانيات لرفع الحجاب المفروض غصباً.

أما حصر الحراك الاحتجاجي الإيراني أو سواه بما يُثير شهية العواطف الانتقائية للرجل "الأبيض" الذي لا يرى في المشهد الشرقي إلا رسوم القرن التاسع عشر التي يظهر فيها "الحرملك" المحجّبات و"السلملك" الطغاة، فلهو من أنجح الوسائل في الانتقاص من شرعية السعي المشترك، نساءً ورجالاً، إلى الحرية والكرامة والعدالة. إن جرى اللجوء إلى هذا الرمز لتقديم الأعم والأشمل، ويمكن حينها أن يصبح رمزاً للحراك، فالمظاهرات التي تخرج في إيران تنادي بالتأكيد للمرأة، ولكن أيضا وخصوصاً فهي تنادي بالحرية. وتحرّر المرأة لا ينحصر برفع الحجاب المفروض عليها، ولكن أيضا بإبقائه إن كان من اختيارها وبناء على قناعتها.

تنأى العلمانية بالدين عن شؤون الدولة وينسى كثيرون أنها تنأى بالدولة عن شؤون الدين

إذاً، يمكن لمن اختارت الحجاب أو عدمه أن تكون معنية بالتضامن مع النساء الإيرانيات خصوصاً، والشعب الإيراني عموماً، وهو التوّاق للانعتاق من سلطةٍ أفرغت خزائنه وأمعنت في انتهاك حرية التعبير لديه وحطّمت مجتمعه المدني. ليس الحجاب هنا إلا أمراً رمزياً مع كل ما تحمله معاناة من أجبرن على وضعه أو على خلعه من بعد واقعي. وحصر الموضوع غربياً أو من بعضهم عربياً بمسألة الحجاب هو انتقاص من أهمية الحراك الشعبي وسعيٌ إلى التخفيف من أبعاده السياسية.

ولقد صار من شبه المؤكّد أن تغيير هذه النظرة الاستعلائية إلى المشرق بأطيافه أمرٌ لا مجال واسعاً لتعديله جذرياً، وربما ينحصر الأمر في محاولة إصلاحه نسبياً. ولكن ما يمكن لنا، نحن أهل هذه الحضارات، أو، لمن لا يقبل بهذا التوصيف، أهل هذه البقاع، هو أن نتوقف لبرهة قبل أن نبدي موافقتنا غير المشروطة ومباركتنا المتملقة وابتسامتنا الفارغة أمام كل من يحصر الأمر بمسألة حجاب أو عدمه. علينا أن نكون أكثر جرأة، كعلمانيين أولاً، بأن نُذكّر بالتعريف الفرنسي، والذي يُعدُّ الأكثر تطرّفاً، للعلمانية. هي تنأى بالدين عن شؤون الدولة وكذلك، وهذا ما ينساه كثيرون، تنأى بالدولة عن شؤون الدين، فعندما يحكم مستبدٌّ باسم المقدّس ندينه وعندما يحصر الغربيون همّناً شرقاً بمحاولة التخلّص من الحجاب، ندينهم.