هجرة وأمن... مزيج سياسي شهي
ظهر بوضوح، في السنوات العشر الماضية، تصاعد توجّه الناخبين الأوروبيين إلى التصويت لأحزاب اليمين واليمين المُتطرّف في الانتخابات التشريعية، في الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي (27 دولة)، كما سُجّل ارتفاع ملحوظ في الحضور اليميني واليمني المُتطرّف في البرلمان الأوروبي، تحديداً من بعد انتخابات يونيو/حزيران الماضي. ولم تُشكّل هذه الظاهرة مفاجأةً للمراقبين المتابعين للشؤون الأوروبية خلال هذه السنوات الماضية، خصوصاً مع التراجع الذي وصل إلى حدود مقلقة في أداء حكومات أحزاب الوسط أو اليسار التقليدي، أو تلك الناجمة عن تحالف وقتي بين اليمين المعتدل واليسار المعتدل. ولقد سال الحبر الكثير في كتابة النصوص البحثية والتحليلية التي استعرضت أكثر أسباب هذا التحوّل يميناً.
براعم نتائج وصول أحزاب اليمين إلى الحكم تمثلّت في البدء بتنفيذ خطوات عملية لطالما استعرضها مرشّحو هذه الأحزاب وهم يخوضون أتون حملاتهم الانتخابية. ولقد ارتبطت هذه الخطوات التنفيذية أساساً بملفّي الهجرة والأمن. ملفّان شائكان لطالما كانا مبعث خلافات سياسية مستدامة، كما كانا من المفترض أن يرتبط كلّ منهما بعوامل متنوعة مرتبطة بدورها بمعاييرَ ديموغرافيةٍ واقتصاديةٍ واجتماعيةٍ، ولكنّهما في مخيّلة وخطاب وإجراءات صانعي السياسات وأصحاب القرار في الأوساط اليمينية، على أنواعها، مرتبطان ببعضهما بعضاً بشكل شديد اللحمة. فلا يتنطّح سياسي يميني للحديث عن الملفّ الأمني من دون التطرّق إلى دور الهجرة والمهاجرين في توتير حالة الاستقرار، التي كان المواطن ينعم بها، كما وترهيب الآمنين. وفي المقابل، كلّما استعرض هؤلاء مسألةَ الهجرة ونتائجها السالبة الوخيمة حكماً في مخيلتهم على حيوات المواطنين (رغم حصيلة ضخمة من الدراسات العلمية الجادّة التي تؤكّد العكس) فهم ما فتئوا، ولم يكلّوا (ويملّوا) من ربطها بالتأسيس لانعدام الاستقرار الأمني، وبأنها تشكّل تهديداً صريحاً للأمن الإنساني في البلاد.
لا يتنطّح سياسي يميني للحديث عن الملفّ الأمني من دون التطرّق إلى دور الهجرة والمهاجرين في توتير الاستقرار
وبعد أن برز اسم جيرالد موسى دارمنان وزيراً للداخلية متشدّداً في فرنسا، يتبنّى سياسةً حازمةً تجاه الهجرة والمهاجرين خلال السنوات الأربع الماضية (أفصح عن أصوله المهاجرة بعد أن ترك المنصب)، حلّ مكانه اليميني المحافظ والأقرب للتطرّف عقيدةً وخطاباً برونو روتايو. هذا الأخير، لم يفوّت فرصةً تتاح أمامه، ولم يتحدّث عن مسألة الهجرة خطراً ماحقاً، معتبراً أنها مسألة أساسية في رسم سياساته الزجرية، التي تتنوّع بين السعي إلى رفع طاقة مراكز التوقيف المؤقّت للمهاجرين غير الشرعيين تمهيداً لترحيلهم، كما تعزيز الخطوات القانونية التي تسعى إلى مضاعفة أعداد المرحّلين من المهاجرين غير الشرعيين. إضافة إلى تشديد الإجراءات المطلوبة للحصول على تأشيرة الدخول إلى الأراضي الفرنسية، وصولاً إلى إلغاء المساعدات الاجتماعية والصحية التي يتلقاها مهاجرون لم ينجحوا بعد في الحصول على أوراق نظامية. ومعزَّزاً بالربط الميكانيكي للأوضاع الأمنية بملفّ الهجرة، تبنّى الوزير الجديد سياسة تميل إلى تشديد المراقبة في الحدود البرّية، معبّراً عن إعجابه بالخطوات الألمانية والإيطالية أخيراً في هذا المجال، على الرغم من الاتفاقات الأوروبية المختلفة المتعلّقة بحرّية الانتقال بين دول الاتحاد.
وعلى الرغم من فشل تنفيذ خطة اليمين المحافظ البريطاني، قبل أن يغادر الحكومة أخيراً بخسارته للانتخابات التشريعية هذا العام، التي كانت تقتضي ترحيل من لا يُرغب فيهم إلى جمهورية رواندا في وسط أفريقيا، بالاتفاق مع حكومتها، وفي مقابل مبلغ من المال... رغم ذلك، ينشط الوزير الفرنسي الجديد في محاولاته نسخ خطّة لندن التي أُجهِضت. ومن أجل ذلك، فهو يُكثّف المفاوضات مع بعض البلدان الأوروبية الفقيرة (ألبانيا مثلاً)، في سعي منه لفتح معسكرات احتجاز مؤقّت وترحيل للمهاجرين غير الشرعيين الذين يصلون الأراضي الفرنسية في مقابل عائد مالي يتّفق عليه الطرفان. من جهة أخرى، تذخر تصريحات الوزير الفرنسي الجديد بخطاب مُتطرّف بميوله اليمينية، يكاد يعادل خطاب حزب التجمّع الوطني الفرنسي العنصري، إن لم يكن يتجاوزه. كما تتفاوض الحكومة الفرنسية الجديدة مع بعض البلدان العربية التي تشكّل سواحلها نقطةَ انتقال وعبور باتجاه شواطئ البحر الأبيض المتوسط الشمالية كتونس وليبيا. وتهدف المفاوضات إلى تحويل هذه الشواطئ الجنوبية إلى ما يشبه معسكرات اعتقال لحساب دول الشمال.
تتفاوض الحكومة الفرنسية مع بلدان عربية لتحويل شواطئها في المتوسط إلى ما يشبه معسكرات اعتقال
لقد أكدت فرنسا، كما مجمل دول الشمال، من خلال الممارسة التي تتناقض مع "قيم الجمهورية"، ومفاهيم "حقوق الإنسان"، المنبثقة عن "الثورة الفرنسية"، أنها تعتبر أن انتشار أنظمة استبدادية قبالة سواحلها الجنوبية ما هو إلا وسيلة فضلى في المحافظة على أمنها وأمانها، بعيداً عن أي معايير أخلاقية أو مبادئ كونية تُقحِم لغةً حقوقيةً معسولةً في خطابها المسوّق وغير قابل للتنفيذ. كما أن المستبدّ في دول الجنوب، المتمتع بحمايةٍ "ديمقراطية" من الشمال سيسعى لاستغلال المأساة الإنسانية وسيلةَ ضغطٍ وابتزازٍ سياسيّ وماليّ تجاه دول الشمال. كما سيقوم بتنظيم حركة المهاجرين من وعبر أراضيه، بحيث يُنفِّذ ما يطلبه جاره الشمالي الديمقراطي في مقابل دعمه سياسياً وأمنياً للحفاظ على سلطته المطلقة.
هذا الموقف هو الذي يُفسّر جُلَّ التصريحات والإجراءات المتّخذة لدعم الثورات المضادّة، التي أجهضت في جزء كبير منها أحلام "الربيع العربي".