انحراف المسار الديمقراطي في فرنسا
كسب الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، جزئياً رهانه على تهميشٍ صيفي لملفّ اختيار رئيس وزراء بعد تنظيم الانتخابات التشريعية المسبقة التي صدرت نتائجها في السابع من يوليو/ تموز الماضي، مسفرةً عن فوز تجمّع أحزاب اليسار بأكبر عدد من المقاعد، فقد انشغل الفرنسيون بالألعاب الأولمبية، وبإجازتهم الصيفية. رهان ماكرون مؤقت لأنه هروبٌ من الاستحقاقات، فالألعاب الأولمبية تقارب على الانتهاء، وجلّ الذين ذهبوا في إجازاتهم قد عادوا. كما أن المدارس ستفتح أبوابها يوم الغد، مع كل ما يعنيه ذلك من إنفاق وتجهيز للأهالي في ظل أزمة معيشية حادّة ومديونية عامة قياسية، وذلك كله في غياب حكومة تدير البلاد وترعى شؤون العباد، وهذه هي المرّة الأولى في تاريخ الجمهورية الخامسة الفرنسية، أي منذ 1958، التي تغيب فيها الحكومة كل هذه الفترة التي قاربت خمسين يوماً.
من الواضح أن الانتخابات التشريعية والتي أسفرت، وذلك على عكس كل التوقّعات الصحافية واستطلاعات الرأي، عن فوز تجمّع أحزاب اليسار تحت مسمّى "الجبهة الشعبية الجديدة"، وذلك بأغلبية نسبية في الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان)، لم تُرضِ الرئيس ماكرون الذي كان يأمل بفوز حزبه، حزب النهضة بالأغلبية القصوى، وقد كان يُشكّل أغلبية نسبية في البرلمان السابق. وعلى الرغم من أن العُرف يفرض على رئيس الجمهورية تسمية رئيس أو رئيسة وزراء من الأغلبية الفائزة مهما كانت، نسبية أم قصوى، لكن ماكرون أجهض هذه القاعدة ببرودة عالية، كما سجّل بأحرف كبيرة انتهاكه المبادئ الديمقراطية، فقد أعلن الأسبوع الماضي استبعاد إمكانية تكليفه أي شخص من اليسار الفرنسي بتشكيل الحكومة المنتظرة، بحجّة تعريض "استقرار المؤسّسات في البلاد" للخطر. وسعياً إلى شقّ صفوف الجبهة، ميّز بين حزب فرنسا الأبية وبقية التشكيلات اليسارية، حيث على الرغم من قرار مجلس الدولة الفرنسي بعدم تصنيف حزب فرنسا الأبية يساراً متطرّفاً، ماكرون مصرٌّ على وضعه في خانة التطرّف اليساري، كما حزب التجمّع الوطني الذي أكّد مجلس الدولة أنه يميني متطرّف.
هذا الاستقرار الذي يتحدّث عنه ماكرون، كان قد زعزعه بنفسه، في حله المفاجئ الجمعية الوطنية، تمهيداً لتنظيم انتخابات بسرعة قياسية، وفاتحاً الباب على مصراعيه لسيطرة اليمين المتطرّف، ممثلاً بحزب التجمّع الوطني. ومن خلال استبعاد الفئة السياسية الفائزة عن تشكيل الحكومة، وهي يسارية، يسعى ماكرون إلى شقّ صفوف اليسار الفرنسي الجديد، وهو في ذلك مسلّح بشخصيات وتيارات قوية داخل الحزب الاشتراكي، والتي عمل معها حينما كان وزيراً في ظل حكم الرئيس الاشتراكي فرانسوا هولاند. وحاليّاً، هناك شخصيات يعوّل عليها لتدمير الموقف الموحّد خلف مشروع الجبهة الشعبية اليسارية، ومنها وزيرٌ للداخلية سابق، اسمُه برنار كازنوف، والذي يبدو أن عمق كرهه اليسار الجديد يمكن له أن يدفع به إلى أحضان الماكرونية السياسية بكل سهولة. وهذا الاسم هو المتداول حالياً مرشّحَ الرئيس لشغل منصب رئيس الحكومة.
خسر ماكرون ثقة الفرنسيين الذين فشلت كل مشاريعه "الإصلاحية"" في إعادة ثقتهم بالمؤسّسات السياسية
من خلال هذا الالتفاف على نتائج الانتخابات التي خسرها ماكرون وأعضاء حزبه، فالرئيس الذي يعتبر نفسه ممثلاً للعقل يُسجّل انتهاكاً ديمقراطيّاً في محاولة إعادة أنصاره إلى مسك أمور البلاد. وأكبر دليل على قبوله تحالفات مشبوهة إعادة انتخاب رئيسة الجمعية الوطنية في منصبها، وهي من حزبه، على الرغم من أن حزبه خسر الأغلبية النيابية في الجمعية. وبدأ الخطاب الرسمي يتحدّث عن إمكانية عقد التحالفات أو تعزيز التوافقات بين حزب الرئيس، النهضة، وأحزاب اليمين الديغولي، وكما أحزاب الوسط، في سبيل قطع الطريق أمام ما يسمّيهما ماكرون اليمين المتطرّف واليسار المتطرف اللذين يضعهما على الدرجة نفسها مما يعتبره خطراً على الجمهورية الفرنسية. وهو يتحدّث بإعجاب عن النموذج الألماني في تشكيل الحكومات، حيث تبدأ الأحزاب بمناقشات لتشكيل ائتلافٍ بعد صدور نتائج الانتخابات الفيدرالية. غالباً ما تكون مفاوضات الائتلاف طويلة ومعقدة، كما كان الحال في عام 2021، إذ استغرق تشكيل ائتلاف حكومي 73 يوماً.
خسرت الأغلبية الحاكمة الانتخابات المرتبطة بالبرلمان الأوروبي، وقد دفعت هذه الخسارة رئيسها إلى أن يحل الجمعية الوطنية ويدعو إلى انتخابات تشريعية مسبقة، خسرها أيضاً، وخسر ثقة الفرنسيين الذين فشلت كل مشاريعه "الإصلاحية"" طوال حكمه في إعادة ثقتهم بالمؤسسات السياسية. وفي رسالة تبريرية لخطوته في حلّ الجمعية الوطنية، وفي الدعوة إلى انتخابات تشريعية مسبقة وجّهها إلى الفرنسيين، قال ماكرون "تطالبون بالاختيار، وتطالبون بأن تحظوا بالثقة، أليس هذا هو المعنى الحقيقي للديمقراطية في جمهوريتنا؟". واليوم، هو يتغاضى عن حقهم في الاختيار بعدما اختاروا اليسار، فإنه لا يُناقض نفسه فحسب، بل هو ايضاً يضع جميع مؤيديه في موقع الاتهام بالمساهمة في انزياح العملية الديمقراطية عن مسارها.
صرّح الرئيس ماكرون، أخيراً، بأنه يعمل ليلاً نهاراً في سبيل حل معضلة الحكومة، ويبدو أن هذه الجهود ستسفر بعد ساعات على تأجيج متجدّد للاحتجاجات الشعبية.