الحاخام والخنزير على الطريقة العربية
دقّق في قائمة الدول العربية التي وقع عليها اختيار الاحتلال الإسرائيلي ليسمح لها بإسقاط بعض المساعدات من الجو على النازحين والمنكوبين في جنوب قطاع غزّة، في استعراض لمشاعر أخوّة مصطنعة، سوف تجد كل الدول العربية الأكثر التزامًا بخط التطبيع مع العدو، حيث تأتي مصر والأردن، من فئة المطبّعين الأوائل، ثم الإمارات والبحرين من المطبّعين الصاعدين الطامحين في إزاحة الجيل الأول، ومعهم أي دولة عربية خليجية تحط فيها طائرة بنيامين نتنياهو.
يتقدّم هذه الدول ويقود هذه التظاهرة الإنسانية الزائفة بالطبع الولايات المتحدة، الراعي الرسمي والشريك الأساس في العدوان الصهيوني المستمرّ منذ قرابة خمسة أشهر، وفرنسا التي تصهينت تمامًا مع إيمانويل ماكرون الذي أقرّ تشريعًا يعتبر مهاجمة الصهيونية رديفًة لمعاداة السامية، فضلًا عن أنها مطبخ التفاهمات الخاصة بالهدنة والتهدئة، حسب الشروط الإسرائيلية بالطبع.
تحلّق الطائرات محملة بالمساعدات وبمشاهير السوشيال ميديا لزوم التصوير والإخراج، ثم تلقي هدايا الزعيم على الشعب الشقيق، بعضها يذهب إلى البحر، وأحياناً تسقط بالخطأ فوق سكّان المستعمرات الصهيونية، والباقي يصل إلى الفئة المستهدفة، فتنطلق هتافات الإعلام الرسمي بجسارة القائد الذي تحدّى الاحتلال وأنزل على الفلسطينيين الجوعى والمرضى سحائب مروءته وإنسانيته، ثم يأتي الاحتلال ويصدم الجميع بأن العملية كلها بترتيبٍ منه وتحت إشرافه، وبأنه المتحكّم في اختيار اللاعبين ومساحة دور كل منهم، كما في البيان الرسمي الصادر عن جيش الاحتلال، والذي تضمن الآتي:
"في إطار تعاون بين إسرائيل والمجتمع الدولي، والأردن، وفرنسا، والإمارات العربية المتحدة، ومصر والولايات المتحدة - تم استكمال حملة إنزال (الثلاثاء) لـ 160 رزمة تموينات غذائية ومعدات طبية لصالح سكان جنوب قطاع غزّة، والمستشفى الميداني الأردني في خانيونس.
وبموجب ذلك، تم إنزال في اليوميْن الماضييْن حوالي 160 رزمة تموينات غذائية فوق حوالي 17 نقطة مختلفة بمحاذاة الخط الساحلي الجنوبي في القطاع بواسطة طائرات أميركية، ومصرية، وإماراتية، وفرنسية وأردنية - والتي شملت التموينات الغذائية والمعدات الطبية المخصصة لسكان جنوب القطاع".
بقية العرض الدامي يعرفها القاصي والداني، ومضت على النحو التالي، بعد إسقاط المساعدات جوًا، والإيحاء للشعب الواقع تحت المجاعة بأن واقعاً جديداً قد فرض نفسه وأن التهدئة وتوقف القصف قاب قوسين أو أدنى، وبعد أن تدفقت المساعدات برّاً إلى شمال قطاع غزّة عن طريق الاحتلال في اليوم التالي، خرجت الآلاف من العائلات للحصول على الخبز والدواء، لتبدأ على الفور عمليات القنص وحصد الأرواح من خلال القصف الجوي الإسرائيلي والاستهداف المباشر للرؤوس والصدور، ليسقط مئات الشهداء من الفلسطينيين شهداء خدعة التهدئة الزائفة، وليصبح عدد الذين يموتون بالهدنة الوهمية أكبر من عدد الذين قتلوا بالضربات الجوية في اليوم الواحد.
جريمة هذا العدد اليومي الهائل من شهداء فلسطين أنهم ابتلعوا الخديعة، وصدّقوا أن التهدئة جاءت عندما وجدوا أن كل أصدقاء العدو وحلفائه من العرب بات بإمكانهم التحليق جوّاً فوق رؤوسهم، في اليوم نفسه الذي صادف إنتاج نسخة جديدة من أوبريت الحلم العربي، أو بالأحرى (إخصاء) الحلم الذي ولد مع الانتفاضة الفلسطينية الأكبر في مطلع الألفية، إذ حذفوا منه كل ذكر للقدس والأقصى والقضية الفلسطينية، ليصبح حلماً عربيّاً صهيونيّا مشتركاً.
لقي الشعب الفلسطيني على مدى 140 يوماً من العذاب والخذلان والتواطؤ ما جعله يقبل أن يرمي له الأشقاء من الأعلى ما يحفظ حياة حياة أطفاله وعجائزه، وتجرّع مرارة الإهانة وهو يرى أشقّاءه المطبّعين يكرّرون معه حكاية الحاخام والخنزير الشهيرة في التراث القديم، بعد أن حاصروه وجوّعوه وقطعوا عنه الماء والغذاء والدواء، داخل ما تبقّى من غرفة غزّة الضيّقة يكاد يختنق من رائحة العدوان والخذلان الكريهة، فلما أوهموه بأنهم صنعوا له متنفّساً ومخرجاً انطلق بأقصى سرعة ليجد الرغيف محشّواً بالرصاص والطحين مزروعاً بالقنابل.
في القصة، اقترح الحاخام على الرجل وعائلته أن يحضروا خنزيراً للعيش معهم داخل الغرفة التي يشكون ضيقها، فلما أوشكوا على الموت اختناقًا قرّر الحاخام إخراج الخنزير من الغرفة فتنفس ساكنوها الصعداء، وفي الواقع العربي المقايضة هكذا: تأكل خبزاً معجوناً بطحين التطبيع أم تموت جوعاً.. ترضى بالشقيق وسيطاً فقط، وليس شريكاً لك في معركتك وقضيتك التي كانت قضيته، أم نغلق عليك باب الغرفة مع الخنزير المسلح ونتركك وحدك؟.
تلك هي حصيلة مفاوضات عبثية في باريس زعموا إنها جعلت الاحتلال أكثر ليونة، وأن وساطة الشقيق ستجلب الرغيف وحبّة الدواء، كم ألف فلسطيني جديد يجب أن يموتوا حتى تبقى الوساطة على قيد الحياة؟