الجنرال يغني: سياحة وسياسة
يقول لكم الجنرال بأصوات مطربيه: دعوني أقتل المصريين في هدوء، وتعالوا للاستمتاع بالسياحة في مصر.
هذا نظام مصاب بنوع من الشيزوفرينيا تجعله، وهو واقف في قلب بحيرة من الدماء، يغني للأمن والأمان والمحبة والتسامح والإنسانية، ويوجه الدعوات للعرب، لكي يأتوا للاستمتاع بالجنة، في وطن يتغذى على انتهاك القيم الإنسانية، ويمارس تطهيراً عرقياً ضد قطاع واسع من سكانه.
يغني مطربو السيسي للسياح العرب، مرددين كلاماً ناعماً وحالماً عن الدفء والحنان والابتسامة التي لا تفارق ثغر مصر، يقولون إن "مصر قريبة"، بينما القاصي والداني يعلم أنها، وإن كانت قريبة جغرافيا، إلا أنها لم تكن أبعد من إنسانيتها وقيمها العربية، أكثر مما هي عليه الآن.
يصرخون أن تعالوا إلى حضنها، في اللحظة التي تمارس فيها عمليات الإقصاء والإبعاد والمطاردة لأبنائها، حتى صارت المنافي تضجّ بآلاف الناجين من تلك المحرقة السياحية السعيدة.
إذن، تعالوا إلى مصر، واستمتعوا بسياحة لن تجدوها في مكان آخر على وجه الأرض، هذه برامج زيارات لا تقبل المنافسة، فلديهم أكبر تشكيلة من المعتقلات والسجون وأقبية التعذيب. لديهم ميادين مزروعة بالجماجم ومروية بالدماء، لديهم أهرامات من الغل والكراهية والتفرقة العنصرية، لديهم متحف عريق في قلب ميدان الثورة، ضجت فيه مومياوات الفراعنة من مزاحمة الشباب المعتقلين لها، لديهم مقاهٍ مزروعة بالمخبرين والبصاصين الذين يعدون على الزبائن أنفاسهم، ويسجلون همساتهم، ويفتشون في نظراتهم المندهشة من هول ما يحدث.
الجوقة ذاتها التي ملأت الفضاء بعوادم الوطنية الشوفينية الفاسدة، وانهالت على العرب سخرية من الحجم وتعداد السكان، ورددت، بوضوح، أن مصر الانقلابية ليست بحاجة إلى العرب، هي ذاتها التي تغني في أوبريت "السياحة والتسول".
هي الجوقة المعبرة ببلاغة عن أخلاقيات نظام التسريبات، والحبة الواحدة والثلاث حبات، تلك التي اشتعلت بالهتاف، تشجيعاً لفريق الكرة الأميركي، حين واجه فريق الجزائر العربي في زمن حسني مبارك، ثم رقصت احتفالاً بهزيمة فريق قطر العربي في نهائي مونديال كرة اليد أمام منتخب فرنسا، هي ذاتها الجوقة التي تتمايل، الآن، رقصاً على أنغام العروبة السياحية، وتستدرّ عطف المواطن العربي، كي يأتي ويسيح في مصر الأربعين ألف معتقل، وآلاف الشهداء الذين قالوا للانقلاب العسكري: لا.
دعك من الركاكة والدونية الطافحتين من كلمات أوبريت الجنرال، فالحاصل أننا بصدد حملة تسويق سياسي، تتخذ شكل الترويج السياحي، ففرقة الجنرال تغني سياسة، لمناسبة ذهاب الزعيم إلى أهل المنح والهبات، تكريساً لمصر المباركية، مصر الفندق والشاليه والكازينو، لا مصر الدور العربي والإقليمي، مصر التي هندستها اتفاقيات كامب ديفيد، وحرمت عليها زراعة القمح وتعمير سيناء، وحشرتها في شرم الشيخ، فندقاً للتفاوض والصفقات، وشاطئاً للمتعة والنزهات.
هي مصر "الفهلوة" والشطارة التي تتوهم أنها تستطيع أن تنجح في الاقتصاد والسياحة، بينما هي مستقرة في حضيض الفشل السياسي، والانهيار الإنساني، مصر المهذبة أمام العدسات، المنفلتة بصفاقة وقاحة في غرف التسريبات، مصر التي تراهم "أنصاف دول" في الخفاء، وتقول لهم أنتم الكبار والحكماء في العلن.
عرف المجتمع المصري، بعد كامب ديفيد، وفي غمرة اندفاع النظام السياسي نحو انفتاح "السداح مداح"، مبتعداً عن كل ما من شأنه تحقيق تنمية حقيقية، من زراعة وصناعة وتعليم محترم، عرف ظاهرة "خرتية السياحة"، وهم أفراد ومجموعات من البشر، كانوا يفعلون كل مجرم، ويقدمون كل محظور ابتزازاً للسائح، ولم نكن نتصور أنه سيأتي اليوم وتبتلى فيه مصر بنوع من "خرتية السياسة" الذي يصنعون كل شيء، من سيناء إلى ليبيا إلى غزة، إرضاءً وإشباعاً لرغبات من يدفع أثماناً سياسية واقتصادية.
إن نظام الجنرال يغني لكم وعليكم.