التطبيع مع معاداة السامية
صارت مفردة التطبيع ترِد على كل لسان، عالماً أو جاهلاً بمعناها وأثرها. كما أنها تتكرّر في كل نصٍ يريد صاحبُه أن ينال من خصمه الفكري، إن كان صاحب الاتهام يُفكّر ويحمل مبدأً، أو أنه لا يُفكّر ويجد في التهمة ملجأً. واختلف فقهاء وسائل التواصل وفلاسفتها على تعريف هذه العبارة، فمنهم من اعتبرها مُلحقةً فقط بمعنى الانهزام والتخاذل والصلح مع عدوٍ حقيقي أو متخيّل، ومنهم من اعتبرها مرتبطة بحالة غضب مؤقت يمكن لهم، وبفتوى من مؤثّرٍ على الشبكة، أن يبرئوا ضحية القذف بها منها. ويكاد جُلّهم يجهل معناها اللفظي، ففي التطبيع عودة إلى طبيعة الأشياء والأمور والحالات. فهم إذاً، عندما يتّهمون فرداً أو جماعة بالتطبيع مع العدو، ومن المفضل أن يكون الإسرائيلي المحتل الغاشم، فمن المحتمل أنهم يعتقدون بوجود مرحلة مضت كانت فيها العلاقات مع هذا المحتل طبيعية. وبعيداً عن الجدل اللغوي والمفاهيمي، وحتى لا يتّهمنا أحدُهم بالدوران حول صلب المسألة، فالجميع يستخدم هذا التعبير سلباً للنيل من خصمٍ أو لإدانة تصرّفٍ يسعى مُقترفه للتصالح مع عدوٍ جمعي يحتلّ أرضاً ويغتصب حقوقاً وينتهك تاريخ شعبٍ ويهزأ بمقدّساته.
مقاطعة العدو الإسرائيلي ومقاطعة بضائعه وإدانة المتصالحين معه، مجاناً ومن دون أي مقابلٍ يأخذ بالاعتبار حقوقاً ومآلات، نجح كثيرون، من عربٍ ومن عجم، في ممارستها قولاً وفعلاً، خصوصاً في أوساط لا تحمل ضغينة شخصية تدفعها إلى التلاعب بالمفاهيم وتغيير استعمالاتها. في المقابل، ينشد هؤلاء المقاطعون مناصرة قضية عادلة ومقاطعة أصحاب العدوان بشكل فعّال، يرمز لإيمانهم الحقيقي بالقضية ونصرتهم لها، ولا علاقة له بتصفية حسابات وتسديد ديون. لذلك، نراهم نادراً ما يهتمون بتوزيع شهادات البراءة أو محاضر الاتهام، إلا إن كاد "المتّهمون" أن يقولوا خذونا. إذاً، فصُلب اهتمام هذا الصنف من البشر هو القضية والدفاع عنها ومناصرة أصحابها. أما جلّ اهتمام الآخرين فهو توزيع الاتهامات يسرة ويمنة على من يستحقّها نادراً، وعلى من لا يستحقها غالباً.
ما أكثر الفرص التي تُتاح لأصحاب هواية رمي الآخرين بتهمة التطبيع ظلماً لكي ينالوا ممن لا يتفقون معهم رأياً أو ممن ينافسونهم منصباً أو موقعاً أو مكانةً، فلمجرّد أن يكتب أحدهم نصّاً ينسبه لصاحبه، ويكون صاحبه "عدواً" فيصير ناقل قول "الكافر" كفراً، ولو كان هذا "الكافر" قد حلّل وبيّن، وأوضح كذب العدو وتزويره الحاضر والتاريخ. وأذكر مرّة أنني اتُهِمتُ بالتطبيع لعودتي إلى نصٍ كتبه إيلان بابيه، المؤرخ الإسرائيلي الذي يعيش منفيّاً بسبب موقفه الصريح من الاحتلال الإسرائيلي، وهو المعروف بكتابه التوثيقي الأساسي عن التطهير العرقي في فلسطين في سنة 1948. ويحلو لآخرين اتهام أكاديمي بمشاركته في مؤتمر دولي شارك به أحدٌ من أكاديميي العدو، فمن المستحسن أن يُترك الكرسي فارغاً ليسرح الطرف المعتدي ويمرح ويعربد ويستعرض روايته الأحداث، ويُظهر أن شعبه هو الضحية، وأن الآخر ليس فقط هو المعتدي، بل هو لا يحاور، وعنصري، ويهرب من المواجهة. ومن الطبيعي أن تكون المشاركة للمشاركة بحد ذاتها مرفوضة، إن كان صاحبها غير قادر على المواجهة أو غير راغب بها. كما أن المشاركة غير محمودة إن كان موقف منظّمي المؤتمر واضحاً من الموضوع، ويميل لصالح المعتدي. وبالتالي، سيكون وجود الطرف الضحية درعاً يحتمي به المنظّمون ويدّعون الموضوعية. إنه أمرٌ معقّدٌ ومتشابك، لا أدّعي الإحاطة به بشكل كامل في هذا النص القصير.
سهولة الاتهام بالتطبيع وخفّته تساويان وتقابلان تهمة معاداة السامية
استساغ كثيرون ممن سقطوا في حفرة البحث عن ملجأ لعجزهم السياسي والإنساني والأخلاقي عن اتخاذ موقف واضح وصريح من الحقّ المطلق للإنسان في أن يكون إنساناً، في اجترار تعابير لا يُدركون معناها، أو يدركونه، ولكنهم يمتطون صهوتها كمُطالبٍ بحقٍ يُراد به باطل.
في الطرف المقابل، أي في الغرب تحديداً، ومن يريد أن يحظى برضاه من العرب، هناك تهمة "معاداة السامية". وهي جاهزة لمواجهة كل من تسوّل له نفسه الأمّارة بالسوء أن يوجّه، ولو حتى خنصر الاتهام، إلى دولة إسرائيل بانتهاك حقوق شعبٍ مُستَعمَرٍ وأراضيه محتلة. أما إن أراد، والعياذ بالله، أن يدافع عن حقّ المستضعفين بمقاومة المعتدي، فستُضاف تهمة ترويج الإرهاب إلى محضر الاتهام. ويمكن القول، ومن دون أي تردّد، إن سهولة الاتهام بالتطبيع وخفّته تساويان وتقابلان تهمة معاداة السامية. فهما غالباً ما تُستخدمان في غير موقعهما الصحيح. وهما غالباً ما تقذفان أبرياء منهما بالأذى وبالتشهير.
في إحدى المجلات الفرنسية المناصرة للعدو الإسرائيلي، وردت إشارة إلى أنني "معادٍ للسامية" في معرض مراجعة مواقفي وكتاباتي عن القضية الفلسطينية. وبعد إهمال المجلة نشر حقّي في الرد، ولثقتي بالعدالة وبالقانون، توجّهت إلى محامٍ متخصّص بقضايا التشهير، الذي سرعان ما اهتم بالأمر بشكلٍ إنسانيٍّ ومتحمّس. وبسرعة قياسية، أجبر المجلّة على نشر الرد الذي أوضحت فيه مواقفي، وندّدت بالتهمة التي أُطلقت جزافاً لتثنيني عن مناصرة الحق. وبعد الانتهاء من القضية، أسرّ لي المحامي بأن التعامل مع هذه التهمة يمثّل تحدّياً مهنيّاً له يتجاوز تهم القتل والاغتصاب.