الترفيه العربي والاستعراض الإيراني
لستَ في حاجة إلى أن تعدد انتقاداتك المتنوعة للسياسة الإيرانية في المنطقة، لكي تصل إلى نقطة الإشادة والإعجاب بالرد الإيراني على غطرسة الكيان الصهيوني وتحدّي داعميه ورعاته العديدين.
لستَ في حاجة إلى إعلان معارضتك التي تصل إلى حد القرف من الأدوار الإيرانية في تسهيل غزو بغداد وتدمير العراق 2003 أو مشاركتها النظام السوري مذابح ضد شعبه.
لستَ بحاجة إلى أيٍّ من أشكال الاستعاذة لكي تبلغ الموضوع الأساس، وهو الإقرار بأن الضربات الإيرانية على الكيان الصهيوني هي من الأشياء التي تثلج الصدر وتؤسّس لمعادلات جديدة في منطقة الشرق الأوسط، وتسقط أوهاماً عشّشت عقوداً في العقول بأن إسرائيل قوة جبّارة لا يستطيع أحد منازلتها أو معاملتها الندّ بالند، كما أن هذه الضربات تعرّي المطمور والمسكوت عنه في العلاقات العربية الصهيونية.
من أهم ما أسفرت عنه الضربات الإيرانية ضد المحتل أنها بعثت الحياة في التصوّرات النظرية، وفي أفكارنا عن حجم العلاقات بين محور التطبيع العربي وبين الكيان الصهيوني ومستواها، وترجمت هذه التصوّرات إلى واقع يتشكّل ويتحرك على الأرض، ويعبّر عن ذاته بهذه الانتفاضة الرسمية العربية ضد المسيّرات والصواريخ الإيرانية، لمنعها من إصابة عمق فلسطين المحتلة، حيث يسيطر الاحتلال على الجغرافيا والتاريخ هناك.
أيضًا، أكّدت هذه الضربات المؤكّد، وأظهرت أن الاصطفافات معها أو ضدها هي مواقف جرى اتخاذها مسبقًا، قبل الإعلان عن بدء الهجوم الإيراني الواسع على "إسرائيل"، وهي اصطفافاتٌ طائفيةٌ معروفة قبلاً، ومتوقّعة من أصحابها، بحيث يمكن القول إن ردّات الفعل على الخطوة الإيرانية كانت جاهزة ومستعدّة للانطلاق قبل انطلاق العملية الإيرانية، فمن أراد اعتبارها مسرحيةً أعلن أنها مسرحية قبل أن تبدأ، وسيبقى على موقفه، حتى لو أدّى الهجوم إلى تدمير مفاعل ديمونة نفسه، أو هدم الكنيست ذاته.
والحال كذلك، من العبث إهدار الوقت في محاولة إقناع أحد من المتخندقين طائفيّاً أن تحليق مئات الطيارات المسيّرة والصواريخ بعيدة المدى لمسافة أكثر من 1700 كم انطلاقاً من الأراضي الإيرانية حتى تل أبيب والقدس المحتلة، وإصابة بعضها مطاراتٍ صهيونية، هو حدثٌ استثنائيٌّ ونادرٌ وغير مسبوق، على الأقلّ منذ الصواريخ العراقية التي طاولت الاحتلال عام 1991، وأن عملًا بهذا الاتساع لا يمكن أن يكون مجرّد لهوٍ متفقّ عليه فوق خشبة مسرح.
يقولون إن طهران كانت تستعرض. ... حسناً، الحاصل أننا بصدد لحظةٍ لا تخشى طهران فيها القيام بتظاهرة جوية تعلن فيها أنها تمتلك الإرادة والقدرة على إصابة قلب الكيان الصهيوني، الذي كان يظنّ أنه ينام قرير العين، مطمئناً على أنه لا توجد قوة في المنطقة يمكن أن تزعجه... إيران تستعرض قوتها أمام الصهاينة، فيما لا يظهر آخرون قوتهم إلا على شعوبهم المقموعة.
والحاصل أيضاً أننا بصدد واقع جديد في الشرق الأوسط، يقول فيه رئيس أميركا لدولة في الإقليم: لا تفعلي، فتقرّر هذه الدولة أن تفعل وبكثافة عالية.
والحاصل، كذلك، أننا بصدد الدليل العملي على أن الخطاب السياسي والإعلامي الصادر من محور الهرولة، أو محور الترفيه العربي، انتقل من مرحلة مساواة الخطر الإسرائيلي بالخطر الإيراني إلى مرحلة جديدة كليّاً يعتمد فيها طهران خطراً، وعدوّاً استراتيجيّاً أوحد، تتحرّك له القوات وتتصدّى له المقاتلات العربية إن هدّد أمن إسرائيل ووجودها.
لا غرابة في مواقف عربية التقت ذات يوم على حلم تافه بإنشاء "ناتو" عربي لمواجهة إيراني، واجتمعت في قمّةٍ عربيةٍ قبل خمس سنوات قالت عنها الصحيفة الرسمية الأولى في الدولة المضيفة إن "قمة الظهران لن تخرج إلا بقرار تاريخي... السلام مع إسرائيل ومواجهة مشروع إيران الطائفي؛ لأن النتيجة من يرفض السلام يخدم إيران، وعليه أن يتحمّل تبعات قراره".
إذن، لا مفاجأة هنا ونحن نرى تحقّقًا لما رسمه جو بايدن في الأيام الأولى له في البيت الأبيض، حين أعلن عن نظر إدارته في مشروع كيان جديد في المنطقة يكون بديلاً لجامعة الدول العربية، يضم الدول العربية وإسرائيل، تحت المظلّة الأميركية.
لا شيء يدعو إلى الدهشة، فالغارقون في مهرجانات محور الترفيه ومواسمه صاروا يرون كل الأشياء دراما وفقراتٍ مثيرة في مدن الملاهي العربية الصاعدة، فلا بأس من أن يروا الفعل الإيراني مسرحيةً، بينما مهرجانات إسقاط مساعدات قاتلة على سكان غزّة هو الجد الخالص.
مرّة جديدة وليست أخيرة، إيران جارة للعرب وجزء أصيل من المنطقة، لديها طموح قومي في الإقليم، فهل لدى العرب من طموح مقابل سوى الحلم بالتطبيع الكامل مع الاحتلال؟