البنزين واللعب بالنار في مصر

06 مارس 2023
+ الخط -

رغم محاولات الحكومة المصرية وإعلامها لتجميل قراراتها وإجراءاتها المؤلمة للمصريين، أصيبت قطاعاتٌ كبيرةٌ من الرأي العام بغضب وصدمة إزاء رفع أسعار المحروقات، بما يعنيه ذلك من ارتفاعٍ جديدٍ في أسعار كلّ السلع والخدمات الأساسية للمواطنين. فيما لم تفلح قرارات رفع رواتب العاملين في الدولة والمتقاعدين في تقليل الإحباط أو تخفيف الاكتئاب العام الذي صار طابعاً مميزاً لوجوه المصريين في السنوات الأخيرة.
اضطرّت السلطة في مصر إلى تلك الخطوة الشكلية لوقف تصاعد الغضب الشعبي المكتوم، لكن قراراتها جاءت منقوصة ومشوّهة، بل أثارت تساؤلات منطقية واعتراضات مبرّرة. إذ تقتصر الزيادة في دخل المواطن الشهري على حوالى 30 دولاراً، وهو رقم هزيل مقارنة بتضاعف أسعار مختلف السلع والخدمات بين ثلاث مرّات وأربع، أي إن الـ30 دولاراً الإضافية على دخل المواطن متوسّط الحال لن تكافئ الزيادة في تكلفة شراء واحدة فقط من السلع الغذائية الأساسية.
نقطة أخرى تجاهلتها السلطة في مصر، أن الزيادة المقرّرة تقتصر على العاملين في القطاع الحكومي ومؤسّسات الدولة، أي ما لا يزيد على ستة ملايين شخص. فيما يبقى عشرات الملايين من العاملين في القطاع الخاص يعانون من الخضوع لتحكّمات أصحاب العمل وقراراتهم التقشّفية، ويتقبلونها إجباراً، وإلا فالطرد من العمل، جزاءً لأي مطالبةٍ بتحسين الدخل. هذا خلاف ملايين أخرى تعاني البطالة، سواء من الخرّيجين حديثاً أو ممّن كانوا يعملون في منشآت خاصة جرت تصفيتها على وقع تراجع الاقتصاد المدني وانكماشه لصالح المؤسّسات الرسمية والأجهزة السيادية.
يزداد المشهد قتامة بقرار الحكومة المصرية زيادة أسعار المحروقات عشية الزيادة الهزيلة للرواتب، فأي زيادةٍ في أسعار المحروقات تعني زيادة مباشرة، وبنسب أكبر، في أسعار معظم السلع والخدمات وتكاليفها، بدءاً بكل السلع الغذائية والاستهلاكية، بالإضافة إلى خدمات النقل والمواصلات. 
ومن لقطات لافتة بقوة، في التزامن المؤلم بين زيادة طفيفة في الدخل وزيادة عنيفة في الأسعار، أن الشقّ الأكبر من تكلفة الزيادة في أسعار المحروقات تركّزت في النوع الشائع والأكثر استخداماً في وقود السيارات، والمعروف في مصر باسم "بنزين - 92"، فهو الذي تستخدمه الغالبية الساحقة من السيارات في مصر، بما فيها سيارات الأجرة ووسائل النقل الخفيف. وقد زيد سعر اللتر منه بنسبة 11%. أما النوع الأرقى من الوقود الخاص بالسيارات الفارهة والحديثة، وهو "بنزين - 95" فاقتصرت الزيادة فيه على 7% فقط!. 
بدا الأمر غير مفهوم لكثيرين، بينما هو واضحٌ لمن يعرف العقلية الحاكمة ومنطق اتخاذ القرار في مصر، فالمسألة ببساطة أن التسعير لا يتم وفقاً للغنى والفقر، أو حسب قدرة المواطن على تحمل عبء الزيادة، ولا حتى على مدى رفاهية (أو حداثة) السيارة التي تستخدم هذا النوع أو ذاك من الوقود. وإنما المعيار الوحيد لترتيب الزيادة في التسعير هو اتساع نطاق الاستخدام، ما يعني، بالتبعية، زيادة المبالغ المتحصّلة من التسعير الجديد. حتى لو كان معنى ذلك تحميل الأغلبية الساحقة من المصريين أعباءً إضافية جديدة، فيما تنعم الفئة الأكثر غنىً والأقلّ احتياجاً لدعم الوقود، بالدعم الحكومي. 
يتردّد في مصر أن تفسير تلك الإجراءات المعيبة يكمن في اضطرار الحكومة المصرية إلى تنفيذ مطالب صندوق النقد الدولي، لكنها تتلاعب بتطويع الخطوات المطلوبة وفق حساباتها لتحقيق أعلى حصيلةٍ مالية ممكنة. ولذا تمارس مزيداً من الضغوط على الطبقة الكادحة التي صارت تجسّد المصريين جميعاً، من دون أن تدري خطورة هذا الاندفاع في خنق المصريين وتضييق الحياة عليهم. فهي تدّعي التخفيف عن كاهل المواطن، بينما تتلاعب بأسعار البنزين. ولا تدري أن نار الغلاء التي تزحف على الأخضر واليابس في كل بيت قد يزيدها البنزين اشتعالاً، فتحرق السلطة قبل المواطن.

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.