نتنياهو يبحث عن المجهول
لم يَعُدْ مَحلَّ تساؤلٍ أو جدلٍ تَعمُّد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، عرقلةَ المفاوضات الجارية بشأن اتفاق لإنهاء الحرب في غزّة، فأثبتت المبادرات المُتكرّرة والمحاولات المتوالية، طوال الأشهر الماضية، لوضع صيغة تقبل بها تلّ أبيب، أنّ المشكلة تكمن في موقف نتنياهو على وجه التحديد، خاصّة بعد أن تبلورت في الأيام الماضية صيغةٌ متطوّرةٌ لاتفاق يُلبِّي كلّ مطالب إسرائيل وشروطها، سواء بحسب ما طرحها الوفد المفاوض أو طبقاً لما تناقلته الدوائر الرسمية الإسرائيلية السياسية والعسكرية، بل وفقاً لتصريحات نتنياهو نفسه السابقة ومواقفه.
يدرك نتنياهو جيّداً معنى التوصّل إلى اتّفاق، ففور التوقيع ستكون حياته السياسية قد انتهت، وربّما حرّيته الشخصية أيضاً، إذ تنتظره ملاحقات قضائيّة في اتهامات عديدة، بعضها جنائي وبعضها بسبب مسؤوليته الرسمية عن التقصير الأمني تجاه "الطوفان" الذي ضرب إسرائيل في 7 أكتوبر (2023). ليس واضحاً إلى متى سيظلّ نتنياهو يطيل أمد الحرب ويتجنّب الاتفاق. فهذا الوضع لن يظلّ إلى الأبد، لا بدّ لهذه الحرب من نهاية. السؤال هو متى؟... الإجابة ليست بتوقيت أو زمن مُعيّن، وإنّما بتطوّر أو توفّر شروط إنهاء الحرب من جهة نتنياهو، التي تتلخّص في ألّا تنتهي بصورة يضعه في موضع حساب أو محلّ اتهام أو في مساءلة قانونية أو سياسية. فسيناريو تحققّ أهداف الحرب التي أعلنها نتنياهو أصبح مستحيلَ الحدوث، فبعضها قد تجاوزه الزمن، وبعضها الآخر لم يعد قابلاً للتحقّق أصلاً. فمثلاً هدف تصفية القدرات العسكرية لحركة حماس، لم يعد ممكناً، بل لا مطروحاً حتّى داخل إسرائيل. وإذ لم تتمكّن إسرائيل من تحقيق هذا الهدف بالحرب، فمن المستحيل تحقيقه بالتفاوض أو باتصالات سياسية تحت أيِّ ظرف.
ما يراهن عليه نتنياهو تغيّر المعادلات القائمة جذرياً. إنه يتطلّع إلى حدث كبير، لو سُئِل هو شخصياً عن ماهيته لما عرف، لكنّه حدث ضخم كالزلزال، يقلب الطاولة ويعيد الأمور والأوضاع وموازين القوى إلى الوراء، أو يفرض وضعاً جديداً مُختلفاً كلّية عن أيّ معطيات سابقة وحالية. نتنياهو ينتظر المجهول الذي ليس بإمكانه هو شخصياً تحديده أو رسمُ ملامحَ واضحةٍ له، لذلك يسوّف ويُماطل ويُطيل أمد الحرب، ويناور في التفاوض، وسيظلّ يفعل ما أمكنه ذلك. وبعد تسعة أشهر من الحرب الضروس والدمار الشامل لقطاع غزّة، حجراً وبشراً، فإنّ الاستمرار في ذلك أشهراً أخرى، أو أكثر، ليس مُستحيلاً. فإن لم تخضع حركة حماس، وبقيّة الفصائل الفلسطينية، لشروطه ومطالبه غير الواقعية، بل غير القابلة للتنفيذ عملياً، فسيستمرّ القتل الجماعي للفلسطينيين، ويتناقص عددهم، وتنهار قواهم ومواردهم، ومن ثمّ وجودهم الفعلي والرمزي في غزّة.
بالتوازي مع ذلك الأفق المفتوح، يراهن نتنياهو على بيئة خارجية مواتية، وتعدّد المواقف الداعمة. فبعيداً عن حالات تعاطف مع الفلسطينيين، معدودةً وبلا أوراق ضغط، الثابت أنّ معظم الدول العربية تشارك إسرائيل الرغبة في التخلّص من حركة حماس، وغيرها من فصائل المقاومة الفلسطينية، لأسباب عديدة، أكثرها أهمّية ما تحمله تلك الفصائل من رمزية إسلاميّة. ومن ثم، فإنّ انتهاء الحرب بأيّ شكل يبدو انتصاراً لتلك الفصائل، مرفوضٌ عربياً كما هو إسرائيلياً. أمّا أميركياً، فنتنياهو ينتظر بتلهّف إجراء الانتخابات الرئاسية، ويتطلّع بشوق إلى عودة ترامب المتوقّعة إلى البيت الأبيض. ليقلب الفتور الحاصل مع الإدارة الأميركية الحالية إلى دعم مفتوح، ويعيد مظلّة الحماية، والغطاء السياسي والعسكري والإعلامي. وحينئذ، ما لم يحدث ما يتمنّاه نتنياهو من تغيير كبير ما، ربّما يُبادر هو إليه، ويخوض مغامرةً حاسمةً وعنيفةً يحتمي خلالها بتلك المظلّة الأميركية، وذلك الصمت العربي الخجول.