حجّ مبرور غير ميسور

24 يونيو 2024

حجاجّ في طواف الوداع في مكّة (19/6/2024الأناضول)

+ الخط -

سبّبت وفاةُ مئات من المصريين في موسم الحَجّ أخيراً، غضبَ قطاعات واسعة من المجتمع المصري. فمن بين نحو ألف حالة وفاة فقط، من جميع جنسيات الحجّاج، بلغت الوفيَات بين الحجّاج المصريين أكثر من ستمائة. وكانت الغالبية العظمى منها بين الحجّاج غير النظاميين، الذين مثّل المصريون أكثر من نصفهم. ورغم أنّها ليست المرّة الأولى التي يشهد فيها موسم الحجّ حالات وفاة كثيرة، امتاز هذا العام من الأعوام السابقة بمحدودية أعداد الضحايا إجمالاً، وضخامة العدد نسبةً إلى عدد الحجّاج المصريين عامة.
كما أنّ وفيَات موسم الحَجّ أخيراً لم تكن بسبب التدافع كما في معظم الحالات السابقة، ولا لأسباب تنظيمية وفنّية، وإنّما ارتبطت جميعها تقريباً بارتفاع درجات الحرارة وصعوبة أداء المناسك بانفراد، وبمعزل عن التسهيلات والتجهيزات التي وفّرتها السلطات السعودية مراعاة للأجواء شديدة الحرارة السائدة. فواجه الحجّاج غير النظاميين ظروفاً صعبةً ومعاناةً كبيرةً في إتمام الشعائر، فضلاً عن الصعوبات اللوجستية والمعيشية الناجمة عن التهرّب من السلطات والتخفّي من المسالك الرسمية.
حتّى هنا، يبدو أولئك المصريون، وغيرهم، الذين حاولوا أداء شعائر الحجّ، مسؤولين عمّا تعرّضوا له، وعن الوفيات الكثيرة بينهم، لكنّ الصورة ليست كاملة على هذا النحو، فالحجّاج المصريون المتوفّون لم يهبطوا إلى الأراضي المقدّسة من السماء، ولم يتسلّلوا خفية عبر الحدود، وإنّما سافروا من بلدهم بطريقة نظامية من المطارات الرسمية وبواسطة شركة الطيران الوطنية، وغيرها من الشركات الرسميّة. وحصل كثيرون منهم على رقم التصديق الإلكتروني (البار كود)، الذي تُصدر السلطات المصرية بموجبه موافقةً بالعمرة أو الحجّ مقابل رسوم باهظة. ومن ثمّ، لا محلّ للتساؤل عن كيفية سفر أولئك "غير النظاميين" من مصر أو من أيّ دولة أخرى.
وللتذكرة، في التاسع من الشهر الماضي (مايو/ أيّار)؛ أي قبل شهر من يوم الوقوف بعرفة، أعلنت شركة الطيران الوطنية السماح للمواطنين بالسفر إلى السعودية بتأشيرة دخول للزيارة. ثم عادت الشركة نفسها في التاسع من الشهر نفسه إلى إلغاء القرار بإيعاز من السلطات السعودية؛ أي إنّ شركة الطيران المصرية الوطنية الرسمية طرف أصيل وفاعل رئيس في تلك الأزمة. وخلال الأيام العشرة التي فصلت بين قرار السماح وإلغائه، غادر عشرات الآلاف من المصريين إلى السعودية للمكوث هناك، حتّى إتمام مراسم الحَجّ. وبذلك السلطات المصرية شريكة أصيلة في ما جرى، وتتحمّل مسؤولية مباشرة عن الأزمة، إذ بحثت شركة الطيران الوطنية عن المكسب السريع، واستغلّت حسن نيّات السلطات السعودية في عدم منع الزيارات قبل موسم الحَجّ بشهر، وتغافلت الدولة المصرية عن تدفّق عشرات الآلاف إلى جدّة ومكّة والمدينة، تحت أعين الأجهزة والمؤسّسات المعنية وأبصارهما.
وليست السلطات السعودية بريئة من دماء من ماتوا من الحرّ والإرهاق في الحجّ. فقد داهمت الشرطة هناك بيوتاً كان الحجيج يحتمون بها من قيظ الحرارة، ثم عادت، عشيّة يوم عرفة، وسمحت للجميع بالحجّ. ولو كان تحديد العدد لأهداف تنظيمية وبغاية راحة الحجّاج لأمكنها ذلك من البداية، من دون تشريد الحجيج غير النظاميين، وتشتيتهم بين المنع والسماح، بل لا تكفي الأسباب التنظيمية واللوجستية وحدها لتفسير تحديد عدد الحجيج بمليون أو بمليونين، فالإمكانات المالية السعودية تسمح بمزيد من التوسيع والتطوير في أماكن الشعائر كلّها. والمثال الناجح على ذلك فكرة التوسّع الرأسي المُطبّقة في الحرم المكّي والمسعى بين الصفا والمروة. وليس أسهل من تعميمها في أماكن الشعائر لتستوعب ملايين عدّة من الحجيج، من دون مشكلات ولا وفيات.

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.