الإفطار ليس عملاً تبشيرياً
في حمأة التجهيز المتعمّد وغير المتعمّد لصعود اليمين المتطرّف بأنواعه إلى سدة الرئاسة الفرنسية عبر السياسات الاقتصادية شديدة الليبرالية، وما ينجم عنها اجتماعياً، من قبيل العزف على الخوف والتخويف من الإسلام، ورمي كل النقائص الحياتية والسياسية على مسألة المهاجرين، تظهر قضية غريبة على العقل السويّ، لتشغل وسائل الإعلام والرأي العام، وترتبط ارتباطاً مباشراً بالدين الإسلامي. هذا الدين الذي ينتمي إليه الملايين من الفرنسيين، والذي لم يتوقف التطرق إليه بجهل واسع ومعمّق منذ سنوات في الأوساط السياسية والإعلامية الفرنسية، وكأنه الخطر الوحيد الماحق الذي يُهدّد لحمة المجتمع الفرنسي وتجانسه، وصولاً إلى الحديث عن خطر "الإحلال الكبير". وبوجود شخصياتٍ في مراكز القرار تتماشى أفكارها الباطنية مع اليمين المتطرّف، وتُحاكي أفكارها المعلنة عواطف العامة، وتلجأ إلى خطاب سياسي شعبوي بامتياز، فإنّ الإسلام وممارسي شعائره صارا هدفاً سهلاً لكلّ من يبحث عن أسباب جاهزة يبيعها للمتلقي البسيط، لتفسير (أو لمحاولة تفسير) ضعف الأداء الاقتصادي، ارتفاع معدلات الجريمة، انحدار مستوى النظام التعليمي، فشل السياسة الخارجية في الشرق الأوسط وفي شمال أفريقيا وفي أفريقيا جنوب الصحراء، وغيرها وسواها مشكلات بنيوية كثيرة في المشهد الفرنسي.
وفي جديد ما حُرِّر أخيراً، أصدر اتحاد كرة القدم الفرنسي تعليماتٍ مشدّدة إلى حكّام المسابقات المحلية بدرجاتها المختلفة، بوجوب عدم إيقاف المباريات لإتاحة الفرصة للاعبين المسلمين لتناول جرعةٍ من ماء وقطعة من تمر في نهاية يوم صيامٍ. ومن الجدير بالذكر، أنّ أغلب الدوريات الأوروبية من بريطانيا وصولاً إلى اليونان، تسمح قوانينها الناظمة، أو حتى اجتهادات حكّام الساحة، بأن يتوقّف اللعب مدة قصيرة جداً لا تتجاوز الدقيقتين، لكي يُتاح للاعبين إنهاء صيامهم، كما يحصل ذلك بشكل متكرّر في أثناء ارتفاع درجات الحرارة عموماً. وقد حصل هذا التوجيه الغريب على ردود أفعال متفاوتة بين التثمين والمباركة من جهة، وبين الذي عبّر عن شديد أسفه وعظيم ألمه من توقّف الاتحاد الفرنسي أمام هذا التفصيل الشعائري بهذه الدرجة من القطعية ومن الحدّة. وعلى الرغم من أنّ أداء اللاعبين الصائمين لم يتدنّ عموماً، فإنّ مدرّبين زادوا الطين الغوغائي بلّة، بأن منعوا الصائمين من المشاركة في المباريات أساساً. وقد رفع مشجّعو باريس سان جيرمان لافتة في الملاعب، أخيراً، مكتوبٌ عليها "تمرةٌ وكأسٌ من الماء تُمثِّلُ كابوساً للاتحاد الفرنسي لكرة القدم" فتناول الصائم إفطاره ليس عملاً تبشيرياً، بل هو ممارسة فردية.
التطرّف بفهم العلمانية وممارستها يُترجم، إضافة إلى الجهل بمفهومها الأساس، جهلاً في فهم إدارة التنوّع التي يكمن، في نجاحها، البناء المجتمعي العلماني الصحيح
وكان اتحاد الكرة قد أشار، في معرض تعليماته، مُبرّراً، إلى أن التوقف عن اللعب لهذا السبب خرقٌ فاضح لأنظمته التي تتبنّى مبادئ العلمانية. هذا التمسّك بالعلمانية "المانعة"، والذي يدل على تطرّف أو جهل بالمفهوم نفسه، يتوافق مع مسارِ جزء كبير من النخبة السياسية والثقافية الفرنسية في تفسير العلمانية التي تمنع الحجاب في الأماكن الحكومية والمؤسّسات التعليمية، والتي تمنع ممارسة المحجّبات الرياضة في إطار الفرق المحلية أو المنتخبات الوطنية، والتي تمنع أهالي التلاميذ من المحجّبات من مرافقتهم في النشاطات التي يُشارك فيها أهاليهم، والتي ترى في امتناع موظف حكومي عن تقبيل زميلاته مؤشّراً من مؤشّرات التطرّف، والتي ترى في كل ممارسة دينية مؤشّراً على تطرّف أصحابها، وبالتالي تشكيلهم نوعاً من الخطر المجتمعي. وفي النهاية، يدفع هذا الفهم المتطرّف والمنتشر لمفهوم العلمانية إلى إبراز آراء وشخصياتٍ لا تفهم النص الديني في إيجابياته، كما في سلبياته، وتصديرها كممثلة مقبولة ومعتدلة عن الفئة السكانية المنتمية للإسلام، ما يعطي نتائج سلبية، ينجم عنها تطرفٌ غير محمود العواقب لدى الجيل الشابّ من المسلمين، بسبب ما يجدونه من إقصاء ومن تراكمٍ منعي ومن تهميشٍ إرادي ومن ضغطٍ نفسي.
يملأ الحديث عن الإسلام ساعات الإعلام المرئي الفرنسي الشعبي
الدولة العلمانية تعدّدية؛ إذ يختلط غير المهتمين بالروحانيين، بالملحدين، وبالمؤمنين المتدينين منهم وغير المتدينين. ليست العلمانية أداة ضد الأديان أو مع الأديان. إنها أداة تسمح ضمن المجتمع بالعيش المشترك للجميع، مهما تنوّعت اختياراتهم، من دون التوقّف عند الاختيارات والمصالح الفردية ولا معاداتها، بل بتقديم أجوبةٍ للصالح العام. إنها حيادية الدولة ومؤسّساتها تجاه الدين، كما هي حيادية الدين تجاه الدولة ومؤسّساتها. هي عدم تدخّل متبادل في إطار الاحترام والقبول بالآخر. والتطرّف بفهم العلمانية وممارستها يُترجم، إضافة إلى الجهل بمفهومها الأساس، جهلاً في فهم إدارة التنوّع التي يكمن، في نجاحها، البناء المجتمعي العلماني الصحيح.
هل كانت فرنسا دولة غير علمانية عندما وجّه وزير الدولة لشؤون العاملين سنة 1979 إلى المؤسّسات الحكومية والخاصة بأن من الضروري احترام عقيدة العاملين المسلمين في أماكن عملهم وإتاحة الأمكنة المناسبة لهم لممارسة صلاتهم، كما برمجة أوقات العمل بما يتناسب مع مواعيد الصلاة؟ أم أن فهم الإدارة كان أكثر تطوّراً وتقدّمية لمفهوم العلمانية ذاته؟
اليوم، يملأ الحديث عن الإسلام ساعات الإعلام المرئي الفرنسي الشعبي، ولا تكاد تخلو ساعة بث من دون التوقف عنده، عدا نشرات الطقس ربما. وحتى نشرات الطقس تلك، يمكن لها أيضاً أن تتطرّق إلى الحجاب الذي يغطّي السماء.