الإدانة قبل الشرح وبعده

27 يونيو 2015
+ الخط -
يكاد الشرح يتماهى مع التبرير في معرض الحديث عن عصر الوحشية، وتفنّنها بالإجرام المعولَم، العابر للحدود تحت راية "داعش". قبل الشرح وبعده، الإدانة الخالية من أي "ولكن" واجبة، إلا على عميان لا يرون أنفسهم في دائرة خطر الموت الآتي حتماً على أيدي وحوش ينضب معجم اللغة العربية، على غناها، في اجتراح أوصافٍ غير مستهلكة لهم. مشاعر عديدة تتملّك مُشاهِد النقل المباشر المقيت لجرائم تونس والكويت والصومال وعين العرب وفرنسا، أمس الجمعة، وكذا مشاهد الإعدامات حرقاً ونحراً وتفخيخاً في كل بقعة من مساحة إمارة الرعب. العجز أولاً عن الفهم. والعجز ثانياً عن الفعل. والعجز ثالثاً عن إيقاف مسلسل لا تتعب حلقاته من التمديد لنفسها منذ عام. 

رعب المشهد وفكرته يغلب محاولة التحليل الهادئ لكيفية تحوّل بشر من لحم ودم إلى وحوش، أين منها البهائم التي لا تتجرأ على القتل، إلا لسدّ جوعها، أو دفاعاً عن مساحتها الجغرافية، بينما الوحوش الآدمية أمامنا تقتل لتقتل. يوم بعد آخر، تكبر صعوبة المهمة الملقاة أمام المسلمين أنفسهم، وهم الضحايا الرئيسيون لـ"داعش". مهمة نتائجها غير مضمونة على الأقل في المدى المنظور، ذلك أنّ عودة سريعة إلى التاريخ تكشف أن دواعش القرون الوسطى المسيحية، التي سبقت "داعش" في ابتكار أبشع أساليب القتل والتعذيب، لم ينقرضوا إلا بنضال تطهيري عنفي أيضاً، قاده مسيحيون طبعاً على مدى مئات السنين. التحدّي أمام المسلمين؛ مشايخ دين وأحزاباً ومفكرين وصحافيين وصنّاع رأي عام عموماً، هائل، لكنه مُلزم للجميع، على الأقل لأن لا شيء لأحد ليخسره، على ما تُظهره لنا يوميات الموت. وليس من باب المذهبية القول إن توقف بعض السنّة عن التصرف بعقل أقلوي تظلّمي تحدٍّ رئيسي في الحرب ضد داعش وما يشبهها بأسماء أخرى. ذلك أن العقل الأقلوي انتحاري تعريفاً، أيضاً لأنه يعتبر أن لا شيء ليخسره عندما يجمع تراكمات، منها حقيقي، ومنها الآخر متخيّل، ويضعها كلها أمام ناسه بشعبوية تتخذ من الدين وماورائياته لغة لها، فتكون النتائج كارثية على طريقة "عليّ وعلى أعدائي". لكن، هناك ما نخسره بالفعل، شعوباً وبلداناً ومستقبلاً. لذلك، على هذه الأرض ما يستحق النضال ضد أقلية داعشية، توحي جرائمها كذباً أنها تمثّل أهل السنّة. أما التظلّم بالإسلاموفوبيا والتذرّع بإسرائيل وإيران لمحاولة إيجاد مدخل لتبرير جرائم ومذابح تونس والكويت وسورية والعراق وغيرها، فذلك كله مجرد توسيع لدائرة انتحارنا المجاني الذي لم تكن إسرائيل يوماً تحلم بأن تراه يتضخم بشكله الحالي. 

الاستهداف الجديد لتونس، أمس، ليس سوى محاولة اغتيال لتجربة عربية باحثة أبداً عن النجاح. ضرب الكويت وأدٌ لتجربة تحاول أن تكون ناجحة في صياغة عقد اجتماعي مذهبي مقبول، مقارنة بالسعار السني ـ الشيعي الذي لا يعلو صوت فوقه. أما فرنسياً، فاسألوا المواطنين العرب هناك عن الكارثة التي يلحقها بهم هؤلاء في كل نواحي حياتهم. 
بعد بحر الأفكار السوداء التي تجتاح مخيّلة مُشاهِد حفلة الدم، أمس، وقبله وقبله، لا يبقى سوى التندّر على هؤلاء الصوماليين والبورونديين والنيجيريين الذين قُتلوا على أيدي داعش وفرعها حركة الشباب، أمس أيضاً، ولم ينالوا أكثر من أسطر في أخبار وكالات الأنباء العالمية، في مقابل نقل مباشر لا يتعب لضاحية في غرونوبل الفرنسية، حيث قطع رأس رجل. هكذا، حتى في الموت، تقف العنصرية على المنصة، وتوزع حقوقاً متفاوتة بالحياة، وتقول للعالم إن للون البشرة سعر، ولحجم الثروة أثمان، لا يمكن أن تكون متساوية.