الأزمة الليبية إلى تعقيد أكثر
بعد مضي خمسة أشهر على تعثر تنظيم الانتخابات الليبية التي كانت مقرّرة في 24 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وبعد فشل جهود عديدة لوضع مسارات توافقية ليبية لإعادة تشكيل مؤسّسات الدولة الليبية وإنشائها، لا تزال الأزمة الليبية تدور في حلقة مفرغة من التيه السياسي، بسبب غياب الحدّ الأدنى من التوافق بين الأطراف السياسية الليبية، وإصرارها على تكرار الأحاديث ذاتها، مع عدم قدرتها على اتخاذ أي قرار ينهي الأزمة الليبية أو يؤسّس لنهايتها، في وقتٍ تتضارب فيه مصالح الدول الراعية لهذه الأطراف، وما ينتج عنها من اصطفافاتٍ سياسية تأتي في إطار المعارك السياسية الهادفة إلى استغلال ليبيا، باعتبار هذا البلد ورقة في لعبة التوازنات وتصفية الحسابات السياسية الداخلية والخارجية.
في ظل هذا الواقع المعقد بجزئياته وكلياته، ركّزت معظم المبادرات التي تلت فشل تنظيم هذه الانتخابات، على الجانب الدستوري، بوصفه مخرجا من هذه الأزمة، مع إهمال جوانب أخرى عديدة لا تقل أهمية عن الجانب الدستوري، كالمصالحة الوطنية الحقيقية التي يجب أن تسبق أي استحقاق دستوري مستقبلي، على اعتبار أن إجراءات المصالحة ودسترتها أمرٌ لا مفر منه في حالة الدول التي خاضت حروبا أهلية كالحالة الليبية، فالدستور هو في الأصل عقد اجتماعي يُكتب بالتوافق بين الجميع وليس بالمغالبة، وإلا لن يمرّ ولن يحقق السلم المجتمعي، وسيكون منطلقاً لحربٍ أهلية، إن جرى بالمغالبة وتجاهل حق الآخرين. لذلك يرى باحثون ومهتمون عديدون بالشأن الليبي أن القاعدة الدستورية، على الرغم من أهميتها بالنسبة للحالة الليبية، إلا أن المصالحة الوطنية أهم، بوصفها خيارا مستعجلا لإقامة الدولة الليبية التي يجب أن تسبق الاتفاق على القاعدة الدستورية التي تجري عليها الانتخابات، خصوصاً أن هذه القاعدة لطالما كانت مسألة خلاف رئيسية في ليبيا منذ 2015، ولا سيّما بين الطرفين الرئيسين، مجلس النواب في الشرق والمجلس الأعلى للدولة في الغرب، ومن يرتبط بهما من قوى أخرى، سواء أكانت شخصيات أم مجموعات مؤثرة، أم قبائل متنفّذة.
تدور الأزمة الليبية في حلقة مفرغة تزيد من دورانها العبثي الخلافات الداخلية المتنامية والتدخلات الخارجية المتشعبة
وبالتالي، يرى هؤلاء أنّه لا فائدة ترتجى من الاتفاق بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة على قاعدة دستورية حاكمة لإجراء الانتخابات، في ظل وجود حكومتين مختلفتين ترفض كل منهما التعاون مع الأخرى، وتصرّ على التحرّك المنفرد ضمن محاولة التمكّن الكامل من السلطة. كذلك لا فائدة ترتجى من هذا الاتفاق في ظل استمرار النقاط الخلافية بشأن هوية الدولة وشكل نظام الحكم، ووضع الأقليات، والتي لا تزال هي نفسها منذ تشكيل لجنة كتابة الدستور عام 2014، ولا فائدة لأي قاعدةٍ دستورية في ظل استمرار السلاح المنفلت، وسطوة مليشيات عديدة وسيطرتها على مدن وبلدات ليبية عديدة، واستمرار انقسام الجيش وولاءاته لأشخاص وجهات خارجية.
يدلل ذلك كله على أنّ الأزمة الحالية في ليبيا ليس مردّها فقط عدم الاتفاق على القاعدة الدستورية، على الرغم من أهميتها، بل ترجع، في جانب كبير منها، إلى حرص بعضهم على البحث عن تموقعات جديدة، تضمن لهم استمرار الحفاظ على مصالحهم ومكتسباتهم. لذا يكمن الحل لتجاوز هذه الأزمة والانسداد السياسي بالابتعاد عن التسويات الظرفية التي ساهمت في الانقسامات، وباتت تهدّد وجود الدولة الليبية من الأساس. وهذا ما يمكن أن توفره جلسات الحوار الوطني الجامع، المدعومة من المجتمع الدولي الذي تقع عليه المسؤولية الكبرى بالتخلي عن المراوحة التي تلازمه في إدارة الأزمة، والدعوة إلى جلسات حوار وطني جدّية، يمكن لها أن تكون مقدّمة لإنهاء حالة الانقسام السياسي والجهوي والمناطقي، وتعمل، في الوقت نفسه، على توحيد المؤسسات المنقسمة وسحب السلاح وإخراج المرتزقة، إلى جانب صياغة قوانين انتخابٍ تحظى بقبول الجميع، مع وضع سقفٍ زمني لإنجاز كل تلك المتطلبات، قبل البدء بتدشين مرحلةٍ جديدة لعهد جديد، يبدأ بانتخابات حرّة ونزيهة وشفافة تحظى باعتراف دولي وقبول شعبي، وتفتح الآفاق لليبيا جديدة بعيدة عن التوترات والتجاذبات.
في الختام، تدور الأزمة الليبية في حلقة مفرغة تزيد من دورانها العبثي الخلافات الداخلية المتنامية والتدخلات الخارجية المتشعبة، ما يثير الانطباع بأن هذه الأزمة سائرة نحو مزيد من التعقيد المحمول على نتائج تحالفاتٍ وصراعاتٍ ومناوراتٍ ومعادلات إقليمية ودولية لم تستقر بعد، ويمكن أن تستمرّ على الأقل حتى شهر يونيو/ حزيران المقبل، موعد انتهاء أجل خريطة الطريق المنبثقة عن الحوار السياسي الليبي، وحلول الموعد الذي طرحه رئيس حكومة الوحدة الوطنية الموقتة عبد الحميد الدبيبة لإجراء الانتخابات في البلاد.