اغتصاب الأسطورة
ما يحدُث في غزّة إبادة وجريمة ضد الإنسانية .. يقولها رئيس إيران ويقولها أردوغان ويردّدها ألف ألف آخرون، تجدها في بيانات اجتماعات موسّعة تسمّى ظلمًا "القمّة"، كما تجدها في الظهور التالي للمباحثات الثنائية، وتسمعها في التصريحات الفردية والخطب الافتتاحية. عرفناها وحفظناها جميعًا، حتى الجنين في بطن أمه والشيخ في قبره يحفظانها، فماذا أنتم فاعلون يا كل المختبئين خلف التصنيفات والتعريفات لإيقاف الإبادة والتصدّي للجريمة ضد الإنسانية؟
تلك الجريمة ضد الإنسانية صارت محميّة بقوة التشريعات والأساطيل الحربية الأميركية والأوروبية، فها هو الكونغرس الأميركي يقر قانونًا أن معاداة الصهيونية جريمة، مثلها مثل معاداة السامية. وقبل الولايات المتحدة الصهيونية، أعلن الصغير إيمانويل ماكرون الجالس على عرش فرنسا، في العام 2019 في خطابٍ ألقاه في حفل العشاء السنوي للمجلس التمثيلي للمؤسّسات اليهودية في فرنسا، أن بلاده ستعتمد في تشريعاتها تعريفًا لمعاداة السامية، بحيث يتضمّن معاداة الصهيونية، قائلًا بعبارات واضحة وقاطعة "معاداة الصهيونية هي أحد الأشكال الحديثة لمعاداة السامية".
بات رؤساء عصابة الاحتلال التي تحرق البشر والحجر في غزّة يعلنون الآن بوضوح إن العصابة تحارب باسم الصهيونية، لتنتقل إلى مرحلة أبعد من اعتماد مفهوم الحرب الدينية في تنفيذ جرائمها، فتصل إلى المجاهرة بأنها إنما تفعل ذلك كله من منطلقات صهيونية، وهي حالة تجعل الرئيس الأميركي، جو بايدن، جنديًا نظاميًا في عصابة الاحتلال، وهو القائل، قبل سنوات، "لا حاجة لأن تكون يهودياً كي تكون صهيونيًا".
هي إذن الجريمة المقدذسة دينيًا وعقائديًا، وهي كذلك الجريمة المحمية بالقانونين، الأميركي والفرنسي، وحاملات الطائرات الأميركية والأساطير البريطانية والفرنسية، ليصيرا، الإجرام والعدوان، رديفين للقداسة، فيما يصبح الضحايا شياطين يستحقّون الإبادة، وتُستباح بشأنهم صناعة أسفار الأكاذيب الصهيونية، التي يحملها رئيس أميركا فوق ظهره ويسرح بها في كل مكان، ولا يهم إن كانت هذه الأكاذيب تسقط وتتعرّى بعد ساعات من إصدارها، فالمهم أنها صالحة للاستعمال السريع في تبرير مذبحة وتسويغ مجزرة، مثل أكاذيب 7 أكتوبر التي تساقطت تباعًا، وفضحها الإعلام الإسرائيلي والأميركي نفسه، ومثل آخر كذبة قبل يومين عن اغتصاب الأسيرات الصهيونيات في غزّة، والتي أطلقها نتنياهو في حصّة الكذب اليومية، ليتلقّفها بايدن ويدور بها مثل موزّع مخدرات بعد دقائق فقط من إنتاجها.
إن كان ثمّة ما اغتصبته المقاومة الفلسطينية فهو هتك الأسطورة المزيّفة عن الجيش الذي لا يُقهر، وأساطير قيم التحضر الأميركي والأوروبي، التي سقطت واحدةً تلو الأخرى، فظهر هذا العالم خلوًا من أي مبدأ أخلاقي، وعاريًا من أية قيمة إنسانية، إذ يمارس الكذب وهو يعلم إنه يكذب، لكنها قبل ذلك تعرّي نظامًا عربيًا لا يزال على عجزه المزعوم وتواطؤه المؤكّد، إذ يواصل الفرجة على الدم الفلسطيني يُراق كل لحظة، ويقف صامتًا أمام تعرية الرجال بعد اعتقالهم وتركيعهم، وفوّهات البنادق في ظهورهم، في مشاهد أبشع بمئات المرّات مما راج عن عمليات الدواعش، تلك العمليات التي يتّخذها الطغاة العرب ذريعة لحرمان شعوبهم من ممارسة حقوقهم السياسية في الاحتجاج والتظاهر والمطالبة بتداول حقيقي للسلطة، وفق آلياتٍ ديمقراطية، ومن التمتّع بالحدود الدنيا من حقوق الإنسان.
جديد الأكاذيب تصوير رجال غزّة بعد اعتقالهم داخل بيوتهم وانتزاعهم من عائلاتهم، بعد تجريدهم من ملابسهم و القيود في أيديهم، على أنهم مقاتلو فصائل المقاومة، وهو الكذب الفاجر هذه المرّة، إذ كلهم مدنيّون، من صحافيين ومهنيين وطلاب، من بينهم صديقي الأجمل ضياء الكحلوت، مراسل"العربي الجديد" في غزّة، والذي قال لي ذات يوم في مارس/ ىذار الماضي إنه لا يصلح للحياة خارج غزّة، بعد زيارة سريعة لاستكشاف قدرته على العمل في الخارج، بشروط هي أفضل بكل المقاييس العادية من العمل داخل غزّة. ولضياء خمسة أبناء، ندى الكبرى المريضة منذ ولادتها، وحمزة لاعب كرة القدم الموهوب، والصغار، وله أم وأب، كل هؤلاء جعلوا حياته خارج غزّة مستحيلة، فعاد سريعًا إليها مكتشفًا أن أيامًا بعيدًا عن حضنها ورائحة بحرها هي دهر من الغربة.
هل حقًا لا يملك النظام العربي والإقليمي شيئًا لإيقاف الجريمة الصهيونية؟. بكل تأكيد، يملكون الكثير، غير أنهم غارقون حتى الأذقان في العدوان الأميركي الإسرائيلي الأوروبي. أما وأنهم لن يفعلوا شيئًا، بل ولا يريدون أن يفعلوا، فالأفضل أن يخرسوا ويتوقفوا عن لعبة التصنيفات والتعريفات، لأنهم والعدو سواء في إيلام الشعب الفلسطيني، بل صمتهم أعنف من أزيز مقاتلات القصف الأميركية.