اضحك لأجل السِلفي

13 اغسطس 2022

(Getty)

+ الخط -

ربما كانت واحدةً من أكثر الصور غرابة تلك التي جرى تناقلها على مواقع التواصل الاجتماعي قبل سنوات، على أثر ظهور تقنية الكاميرا الأمامية في أجهزة الهواتف الذكية، أي الكاميرا الصالحة لخاصية الصورة المسمّاة الصورة الذاتية (سِلفي). تلك الصورة كانت "سِلفي" لعائلة دفنت أحد أفرادها الراحلين للتو، كان ذلك واضحا من شكل القبر الحديث والزهور التي تغطّيه ومن النساء اللواتي يرتدين الأسود. تجمّع أفراد العائلة حول القبر الجديد واتخذوا الوضعية المناسبة للسِلفي، كي يظهر الجميع في الصورة من دون أن ينسوا الابتسامات العريضة اللازمة لنجاح الصورة عند نشرها على وسائل التواصل. كانت المفارقة في الصورة مدهشة، الانتقال المباشر من حالة الحزن على العزيز الراحل إلى رسم ابتسامة عريضة على وجوه أبطال الصورة المتحلقين حول القبر بوضعياتٍ مدروسةٍ لإتمام الصورة.

قبل أيام، صادفتني على صفحات "فيسبوك" صورة مشابهة لشابّة تزور قبر جدّها المتوفى في غيابها، تحضن الشابّة شاهدة القبر مُرجعةً جذعها إلى الخلف، ورأسها يمتد إلى الأمام، والابتسامة تزيّن وجهها (اضحك عشان الصورة تطلع حلوة)، وكأنها في مكان سياحي (هل تحوّلت زيارة المقابر إلى جولة سياحية بفعل عزوف كثر عن المشاركة في مراسم دفن أحبائهم لأسباب تتعلق بتجنب التجمّعات أو العيش في أماكن متفرّقة نتيجة الظروف التي فرضتها حروب العقد الحالي؟).

أعترف بأنني أنا أيضا مهووسة بالتقاط صور السِلفي، أفعل هذا كل صباح تقريبا وكل مساء، لا أحتفظ بالصور ولا أنشرها على وسائل التواصل، (أفعل هذا أحيانا طبعا حين ألتقط صورة بوضعية تظهرني أكثر شبابا مما أنا عليه)، لكنني ألتقط الصور لأراقب تحوّلات الزمن على وجهي، كيف تزداد الخطوط والتجاعيد يوما وراء يوم، صورة السِلفي هنا بمثابة مرآة، لكنها مرآة صريحة فهي تُظهر العيوب كما هي لا معكوسة ومخففة، كما تفعل المرآة، المرآة حنونة وطيبة ومجاملة ومتمهّلة، تشبه زمنها، بينما كاميرا الهاتف الذكي صريحة ومباشرة، تقدّم الحقيقة كما تراها، هي أيضا ابنة زمنها، الزمن القاسي والصعب والسريع الذي لا ينتظر أحدا ولا يُجامل أحدا. علينا نحن أن نلهث لنلحق به. في الحقيقة، أنا مهووسة بأثر الزمن على وجهي، مهووسة بخوفي منه أكثر من هوسي بالصورة، سأعترف هنا بأنني أستخدم منقّي الصورة ومحسنها (فلتر) قبل نشر بعض الصور على وسائل التواصل، أريد أن أبقى شابةً دائما حينما يراني الآخرون.

هل سبب وجود الفلاتر في تطبيقات الهواتف الذكية أن كاميرا الصورة الذاتية فيها صريحة وتقدّم الحقيقة كما هي، ما يجعلنا مصدومين بأشكالنا، فنفقد الرضا عنها ونفقد قدرتنا على قبول أنفسنا كما نحن، فنستخدم الفلاتر لنوهم أنفسنا أننا في أحسن حال؟ يخطر لي أحيانا أن الآخرين يروننا كما نرى أنفسنا أو كما نريدهم أن يرونا، نستخدم الوهم والإيحاء لهذه الغاية، الفلتر مجرّد وهم أو طريقة من طرق الإيحاء النفسي نستخدمه لأنفسنا أولا ثم للآخرين. وهكذا، بدلا من "اضحك عشان الصورة تطلع حلوة"، يصبح القول: استخدم الفلتر عشان الصورة تطلع حلوة.

والحال أن تقنية الصورة الذاتية مع الفلتر زادت في عزلة الكائن البشري، مثلها مثل كل ما أنتجته ثورة التقنيات الحديثة. في السابق، كان التقاط الصورة يحتاج إلى شخص آخر يقوم بهده المهمة، قريب أو غريب لا فرق، التقاط الصور الصامتة كان يحتاج للتواصل مع آخرين، كان الكلام المتبادل والإحساس بدفء الوجود البشري وبرائحة الآخرين يضفي على الصورة صخبا وحياةً سيشعر بها من يرى الصورة، إذ سوف يحدّد العقل مباشرة المسارات التي مرّ عبرها التقاط الصورة، وسيرى تلك التفاصيل. مع صورة السِلفي بكل تقنياتها والصخب الذي يمكن أن تضيفه إليها الفلاتر المتعدّدة، لن تجد سوى الوحدة والعزلة، أنت أمام نفسك فقط، تكلمها وتستمع إليها ولا تشمّ رائحة سوى رائحة نفسك، ولا تستشعر سوى أحاسيسك أنت، تفعل كل شيء بنفسك من دون لزوم وجود آخر. أتأمل في صوري الملتقطة ذاتيا، وأرى كم أتصنّع الابتسام، لا يمكن لابتساماتنا في صور السِلفي الفردية أن تكون حقيقية، فالابتسام يحتاج إلى شعور بالفرح، والفرح ينبع من الروح، ويحتاج إلى آخرين حاضرين في المشهد أو في الخلفية. في صورنا الذاتية، لا نحتاج وجود الآخرين، نمسك الهاتف ونحدّد الوضعية ونبتسم ونلتقط الصورة ونمرّرها على الفلتر، وننشرها على موقع من مواقع التواصل، وننتظر إعجاب آخرين افتراضيين مثل ابتساماتنا، أليس في هذا تجل صريح للعزلة؟

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.