اشربوا من بحر خليفة حفتر

11 اغسطس 2021
+ الخط -

لم يتأخر خليفة حفتر عن شكر حكومة عبد الحميد الدبيبة على شمل نفقات مليشياته في الموازنة العامة للبلد. "قواتنا لن تخضع لأي سلطة في ليبيا باسم المدنية أو غيرها"، قالها الرجل يوم الاثنين بمناسبة الذكرى الـ81 لتأسيس "الجيش العربي الليبي"، وفي قلبه ربما يكون همس: فليبلّطوا البحر أو ليشربوا من مياهه. والـ"هم" تحيل إلى العالم المعني بالأزمة الليبية. عالم ما انفكّ يدلّع الرجل الذي يسهل العثور على عشرات السيَر الخاصة بتبديل جلده، منذ كان عسكرياً في مليشيات معمر القذافي، مروراً بعمله لصالح الأميركيين الذين أعطوه جنسية بلدهم، وصولاً إلى عثوره على الوصفة السحرية التي كان المجتمع الدولي يبحث عمن يطبّقها في ليبيا ما بعد 2011: عسكري يجيد اللعب على العصبيات العشائرية والمناطقية. شاطر في إحياء مظلومية القذاذفة فيصبحون قوة ضاربة في عسكره. ديكتاتور يفهم التوازنات الإقليمية الخاصة بليبيا بدقة، فينحاز قلباً وقالباً إلى المحور المصري ــ الفرنسي ــ الإماراتي ــ السعودي. وحين تطرح روسيا نفسها قطباً مستقلاً، يستعين بمرتزقتها. يرفع شعار "يا غيرة الدين ضد الإسلاميين" ويحدّد "الإخوان" كأعداء الأمة والله بدقة. ومَن أفضل من المداخلة السلفيين ليقاتلوا الإخوان؟ يخاطب الغرب بما يحب أن يسمعه حكامه: اطمئنوا إلى قصة الهجرة السرية التي تمر من العمق الأفريقي إلى أوروبا عبر الأراضي الليبية. أنا أضمن لكم حدودكم بمعسكرات اعتقال لهؤلاء على أراضي ليبيا ومن يمت منهم فليرحمه الله. امنحوني ثقتكم فأضمن لكم التسعة في المائة من النفط الذي تستورده أوروبا من ليبيا.

لكن كل السيرة السياسية المليشياوية لخليفة حفتر، وكل التواطؤ العالمي مع المتسلطين القادرين على ضبط البؤر المتوترة في المناطق الاستراتيجية، مثل ليبيا، لا يتيحان شرحاً وافياً لهذا الضوء الأخضر الممنوح منذ عام 2015 للرجل. تقيم الأمم المتحدة وأميركا وأوروبا الدنيا ولا تقعدها، لضمان إجراء انتخابات في ديسمبر/كانون الأول المقبل، وتنظم المؤتمرات من جنيف إلى تونس وبرلين وباريس والصخيرات، ويفرضون بالقوة على الليبيين حكومة بانتخابات أشبه بنظام قرعة، على أساس أن العالم تعب من حرب ليبيا ويئس من إمكانية حسم طرف لمجرياتها، ثم يفرض مجلس الأمن عقوبات على معرقلي قرارات تسوية الشأن الليبي، فيرضخ من يرضخ، ثم يرفع حفتر رأسه وأصبعه ويقول إن لا انتخابات من دونه، بصفته العسكرية التي منحها لنفسه مارشالاً، ومن دون أن يقدم استقالته من "قيادة الجيش الوطني". لا يعجب الأمر العالم إياه، فيرفع حفتر صوته أكثر: لا موازنة ولا طريق ساحلياً ولا إنتاجاً للنفط من دون تغطية نفقات جنودي. عندها يتم إرضاء جميع المليشيات في الشرق والغرب والجنوب ويتم دمج تكاليفهم في حسابات الدولة ومن ثرواتها. لكن أخطأ من ظنّ أن هذا قد يرضى المصاب بجنون العظمة: يضع المجتمع الدولي أولوية إنشاء جيش وطني واحد في ليبيا، بقيادة سياسية، فيرفع حفتر حاجبيه من جديد، ويوقع مجموعة فرمانات يوحي فيها بأن مليشياته باقية وتتمدد، ومجدداً اشربوا من مياه بحر بنغازي إن لم يعجبكم الأمر. تعيينات لقيادة "جيشه" ومكافأة لمن كان يعينه رئيساً لحكومة طبرق، عبد الله الثني، الذي صارت وظيفته "مسؤول الإدارة السياسية في القوات المسلحة". هل من صفة مماثلة في مكان آخر غير ليبيا الحفترية؟ ربما، وفقط ربما، في بعث صدّام حسين أو حافظ الأسد، أو في كوريا الشمالية مثلاً وعلى الأرجح في الحرس الثوري الإيراني.

خليفة حفتر ليس مجرد شخص، إنه فكرة. فكرة تربية وحش صغير سرعان ما يكبر ويصبح خارج سيطرة مروّضيه. إنه نتيجة لعنصرية حكومات لا تؤمن بأن شعوباً معينة تستحق ديمقراطية. فكرة أن يكون العالم العربي ضحية محور يفطر بحثاً عن ديكتاتوريين، ويتغدى على تحقيق طموحات مجرمين، وينام حالماً بغد عربي كله سعادة، وهناك، للسعادة وزارة خاصة.