استحقاق انتخابات الجهات والأقاليم في تونس

21 ديسمبر 2023
+ الخط -

تنتظم في تونس انتخابات المجلس الوطني للجهات والأقاليم بعد غد السبت، 24 ديسمبر/ كانون الأول 2023 الجاري، وهي آخر محطّة في الأجندة السياسية التي أقرّها الرئيس التونسي قيس سعيّد مسارا لتغيير النظام السياسي والانتقال به من نظام الديمقراطية التمثيلية التي تقوم على الأحزاب والتنظيمات السياسية إلى الديمقراطية القاعدية التي تقوم على تشكيلات شعبية غير حزبية.
تأتي هذه المحطة رابعة ثلاث سبقتها، بدأت بالاستشارة الوطنية، وهذه استفتاء شعبي إلكتروني بشأن مجموعة من قضايا الشأن العام (15 يناير/ كانون الثاني - 20 مارس/ آذار 2022)، ثم الاستفتاء على الدستور (25 يوليو/ تموز 2022) وأخيرا الانتخابات التشريعية على دورتين (ديسمبر/ كانون الأول 2022 -  يناير/ كانون الثاني 2023). جرت هذه المحطّات في أجواء غير عادية، تميّزت بمقاطعةٍ تكاد تكون شاملة من الأحزاب والتنظيمات السياسية، أبرزها حركة النهضة وجبهة الخلاص الوطني وبمشاركة شعبية متدنّية جدا غير مسبوقة في كل الانتخابات التي عرفتها تونس منذ الاستقلال (1956) لم تتجاوز 5% في الاستشارة و30% في الاستفتاء على الدستور و8.8% في الانتخابات التشريعية حسب ما أعلنته الهيئة العليا المستقلة للانتخابات المعيّنة من الرئيس سعيّد.
وتفيد يوميات الحالة التونسية بأن الإعداد لانتخابات المجلس الوطني للجهات والأقاليم يجري في إعراض يكاد يكون كليا من المواطن التونسي من كل الجهات والفئات، جعل الحملات الانتخابية غير جاذبة للناخبين، وهو ما يؤشّر، بوضوح، إلى أن نسبة المشاركة الانتخابية ستكون ضعيفة هي الأخرى، وربما الأضعف.

يضطر التونسيون لقضاء ساعات طويلة في طوابير مزدحمة، من أجل الحصول على كمّياتٍ لا تفي بحاجياتهم

ويعود فشل البدايات لهذه الانتخابات إلى أسباب عديدة، يمكن تكثيفها في النقاط التالية: فشل المحطّات الانتخابية السابقة في تحسين واقع التونسيين عمّق لدى أغلبهم، بمن فيهم أنصار الرئيس سعيّد والداعمون مساره، القناعة بعدم جدوى الانتخابات أصلا، بعد أن تأكّدوا تباعا أنها ليست أكثر من محطّات في أجندة لمشروع سياسي شخصي للرئيس، هدفه تغيير النظام السياسي من نظام ديمقراطي تعدّدي تتعدّد فيه السلطات وتتوزع فيه الصلاحيات داخل المركز وبين المركز والمحلي إلى نظام فردي تجتمع فيه كل السلطات والصلاحيات في مركز السلطة، وهو الرئيس. 
مع تراجع المقدرة الشرائية للمواطن، وخصوصا الفئات الضعيفة والمهمّشة نتيجة تجميد الزيادة في الرواتب مقابل الارتفاع المتواصل والمشطّ للأسعار، وخصوصا أسعار المواد الأساسية، مثل الحليب والسكر والقهوة والأدوية، إضافة إلى فقدانها المتكرّر من الأسواق، نتيجة تراجع الواردات ونفاد مخزوناتها الاستراتيجية، ثم توفيرها بكميّات محدودة، يضطر التونسيون لقضاء ساعات طويلة في طوابير مزدحمة، من أجل الحصول على كمياتٍ لا تفي بحاجياتهم، وهي مشاهد لم يعهدوها طوال العشرية السابقة (2011-2021)، عشرية الحريات والانتقال الديمقراطي التي أقرّت فيها الحكومات المتعاقبة زياداتٍ معتبرة في رواتب الموظفين، وفي ميزانيات التدخل الاجتماعي لمساعدة العائلات المعوزة والفاقدة للسند. كما تمّت فيها المحافظة على المخزونات الاستراتيجية لكل المواد الاستهلاكية، مكّنت الدولة من التدخل لتعديل السوق والضغط على الأسعار والمحافظة على المقدرة الشرائية للمواطن.

لا مكان في رؤية قيس سعيّد للحكم لشركاء يقاسمونه السلطة والصلاحيات، حتى ولو كانوا منتخبين

مقاطعة الأحزاب والتنظيمات السياسية، وخصوصا منها حركة النهضة وجبهة الخلاص الوطني (ائتلاف من عدة أحزاب منها "النهضة" وعدة شخصيات وفعاليات مدنية) أفقدت هذه الانتخابات أهم شرطين لنجاحها، التعبئة الشعبية للمشاركة والتنافسية بين البرامج والمشاريع، فقد أظهر تدنّي نسب المشاركة الشعبية في المحطات الانتخابية الثلاث السابقة الحاجة إلى الأحزاب والتنظيمات السياسية والمدنية لتعبئة المواطنين للمشاركة في الشأن العام عموما، وفي المنافسة الانتخابية خصوصا، كما أظهر محدودية قدرة التشكيلات الشعبية الداعمة للمسار الذي أعلنه وبدأ فيه الرئيس قيس سعيّد منذ 25 يوليو/ تموز 2021 على تعبئة المواطنين للمشاركة في الانتخابات. من جهة أخرى، كشفت محصلات الانتخابات السابقة تواضع مستوى المنتخبين الجدد في الفهم والتحليل والتداول والخطاب، خصوصا وأن أغلبهم جاءوا من خارج الفضاء السياسي التقليدي، ولم يعرفوا نشاطا سياسيا وحزبيا وحتى مدنيّا قبل انتخابهم.
لا مكان في رؤية الرئيس قيس سعيّد للحكم لشركاء يقاسمونه السلطة والصلاحيات، حتى ولو كانوا منتخبين، فقد تتالت وتواترت رسائله إلى خصومه، كما إلى مناصريه وداعميه، أن الحكم من منظوره لا يقبل القسمة، والسلطة سلطة واحدة هي سلطته. حلّ قيس سعيّد على أساس هذه الرؤية للحكم كل الهيئات التي تم تركيزها في عشرية الثورة والديمقراطية باعتبارها هيئات مدنية تعديلية، مثل المجلس الأعلى للقضاء والهيئة العليا المستقلة للانتخابات والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، واستبدلها بهيئاتٍ معينةٍ، اختار أعضاءها على أساس الولاء للمسار الذي أعلنه مساء 25 يوليو، وهو ما ضرب استقلاليتها، وقلّص صلاحياتها وفاعليتها، وغيّر بالكامل تقريبا أدوارها، فبقدر تقدّم الرئيس سعيّد في تركيز رؤيته إلى الحكم تتعمّق لدى التونسي القناعة بأن الرئيس، خصوصا بعد أن جمع بين يديه كل السلطات التشريعية والتنفيذية والرقابية، ليس في حاجةٍٍ لأحد لا من الأفراد ولا من المؤسّسات، وبالتالي، فإن المشاركة الانتخابية لم تعد تعني في ميزان التونسي أي شيء، طالما أن كل شيء بين يدي الرئيس، ومعلّق بإرادته، خصوصا وأن الرئيس لم يُبد أي انزعاج أو قلق من تدنّي نسب المشاركة الشعبية في المحطّات الانتخابية الثلاث السابقة.

قد تكون هذه الانتخابات بالنسبة للحكم نهاية فاشلة لأجندة الرئيس التي بدأت بداياتٍ فاشلة من حيث المشاركة ومن حيث الأثر في الواقع

بناء عليه، تفيد كل المعطيات والمؤشّرات بأن انتخابات المجلس الوطني للجهات والأقاليم (الغرفة الثانية) المزمع إجراؤها يوم 24 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، خصوصا مع تواصل مقاطعة الأحزاب والتنظيمات السياسية والمدنية لها، لن تختلف في شيءٍ عن سابقاتها من حيث تدنّي المشاركة الانتخابية وتواضع نوعية المنتخبين وهامشية أداء المجلس وأثره في الواقع المعيش للتونسيين. 
تبدو هذه الانتخابات في سياقاتها الوطنية والدولية وفي توقيتها استحقاقا مهمّا في ظروف صعبة تزداد تعقيدا تتعلّق به رهانات مهمّة، وربّما مصيرية، لمستقبل العملية السياسية في تونس، وذلك بالنسبة لجهتي الحكم والمعارضة. قد تكون هذه الانتخابات بالنسبة للحكم نهاية فاشلة لأجندة الرئيس التي بدأت بداياتٍ فاشلة من حيث المشاركة ومن حيث الأثر في الواقع، تأتي قبل أقل من سنة من موعد الانتخابات الرئاسية المتوقع تنظيمها خريف 2024، باعتباره أجل نهاية عهدة الرئيس قيس سعيّد الذي جرى انتخابه في أكتوبر/ تشرين الأول 2019. والسؤال: ماذا يمكن أن تكون استراتيجية الرئيس قيس سعيّد لتدارك فشله الانتخابي المتكرّر، وفشله في معالجة الشأنين السياسي والاقتصادي الاجتماعي، وتعزيز حظوظه للفوز بعهدة ثانية؟ أما من جهة المعارضة، وخصوصا جبهة الخلاص الوطني باعتبارها أقوى تشكيل سياسي معارض، فإن السؤال هو مدى جاهزيتها وقدرتها على منافسة الرئيس قيس سعيّد، ومنازلته انتخابيا في ظل تواصل شعبية الرئيس رغم تراجعها الملحوظ، وفي ظل تواصل تشتّت المعارضة وتواصل العزوف الشعبي عن المشاركة في الانتخابات، وعدم ثقة الناخبين في الأحزاب السياسية.