الانتخابات الرئاسية التونسية ومستقبل العملية السياسية
مثلما توقّع فاعلون ومراقبون مُهتمّون بالشأن التونسي عديدون، حفّت بمسار الانتخابات الرئاسية المزمع تنظيمها في السادس من أكتوبر/ تشرين الأول المقبل إشكاليات عديدة يراها معارضو الرئيس قيس سعيّد تعطيلاتٍ وحواجزَ لتكييف المسار الانتخابي بشكل يُقصي المترشّحين الجدِّيين، ويفسح المجال للرئيس المنتهية ولايته ليسابق ظلّه، وليفوز من الدور الأول بما يشبه البيعة العامَّة. غير أنّه رافقت بداية المسار الانتخابي ولادةُ ديناميكيةٍ شعبيةٍ وسياسيةٍ مُهمّة، ربّما فاجأت سلطة الأمر الواقع.
شعبيّاً، نجحت حملات جمع التزكيات المطلوبة (عشرة آلاف تزكية)، التي تطوّع لها آلافُ التونسيين في حماية وتثبيت حقّ الترشّح لكلّ مواطن، بينما اتّجهت إرادة السلطة عبر حزمةٍ من التشريعات إلى وضع الحواجزَ والعراقيلِ لمنع تحقيق هذا الشرط الأساسي في ملفّ الترشّح. يمكن اعتبار هذا المُنجز ضمن الظروف العامة التي تعيشها تونس منذ 25 يوليو/ تموز (2021) نجاحاً واختراقاً مُهمَّين في جدار اليأس، وكسراً لطوق الخوف الذي حاولت السلطة إحكامه بالمتابعات القضائية والمحاكمات، لدفع التونسيين إلى الانسحاب من الفضاء العام.
أمّا سياسياً، فقد خاض عديد من المُترشّحين المُحتمَلين معاركَ إعلاميةٍ ضدّ الحواجز والموانع غير القانونية، من وجهة نظرهم، التي وضعتها أمامهم هيئةُ الانتخابات المعيَّنةُ من قيس سعيّد، مثل اشتراط الحصول على بطاقة السجلّ العدلي، وثبوت الجنسية التونسية لوالد المُترشّح وجدّه، وغيرها من الوثائق التي تحتكر الإدارة منحها للمواطن وتتصرَّف في آجال ذلك وترتيباته. ساهمت هذه المُعارضة السياسية لأداءات هيئة الانتخابات ووزارتي الداخلية والعدل في ما يسمّيه المُعارِضون تعريةَ تدخّل السلطة التنفيذية وتوظيفها المفضوح لأدوات الدولة والإدارة لفائدة مُرشَّح ضدّ بقية المُترشّحين.
أعلنت هيئة الانتخابات في العاشر من أغسطس/ آب الجاري نتيجة الفحص الأولي لمطالب المُترشّحين للانتخابات الرئاسية بالقبول المبدئي لثلاث ملفّاتٍ؛ لكل من قيس سعيّد (الرئيس المنتهية ولايته)، وأمين عام حركة الشعب الموالية للرئيس زهير المغزاوي، ورئيس حركة عازمون عياشي زمال، فيما أسقطت بقيّة الملفّات بسبب نقص عدد التزكيات المطلوبة أو تجاوز الآجال أو إشكال في الجنسية. بناء عليه، أعلن مُترشّحون انسحابهم من السباق، وأبرزهم الصافي سعيد ونزار الشعري، فيما أعلن آخرون اعتزامهم الطعن في قرارات هيئة الانتخابات لدى المحكمة الإدارية. يترقّب المتابعون قرار هذه المحكمة لأهميته في تحديد بقية خطوات المسار الانتخابي، الذي لم يخرج عن أحد المشهدين التاليين: قبول المحكمة الطعون ونقض قرارات هيئة الانتخابات، ورفض الطعون وتثبيت قرارات هيئة الانتخابات.
الحديث عن احتمال تغيير سعيّد بعد الانتخابات مقاربته في التعامل مع الشأن السياسي في اتجاه قدر من الانفتاح يسمح ببناء عملية سياسية تشاركية، يراه كثيرون ضرباً من الخيال
المشهد الأول: قبول هيئة الانتخابات بقرار المحكمة الإدارية، وبالتالي إعادة النظر في الملفّات المرفوضة، وقد يفتح هذا على اعتماد ترشّحات جديدة، وربّما تعديل الرزنامة. سيكون هذا الاحتمال تطوّراً مهمّاً من شأنه إضفاء قدر من التنافسية على هذه الانتخابات، وهو ما لم تكن ترضاه السلطة التي بنت استراتيجيتها الانتخابية على إخلاء الساحة من المنافسين الجدّيين، بما يعفي قيس سعيّد من حرج المنافسة الانتخابية، ويفسح أمامه المجال واسعاً لنيل بيعةٍ عامّةٍ ولو بعددٍ محدودٍ من المُصوِّتين "الوطنيين". أمّا المشهد الثاني فهو رفض هيئة الانتخابات قرار المحكمة الإدارية تحت ضغط السلطة، التي سبق لها أن رمت عُرْضَ الحائط بقرار المحكمة الإدارية القاضي بإعادة القضاة المعزولين (57 قاضياً عزلهم قيس سعيّد). قد يُؤدِّي هذا الاحتمال إلى تصاعد المُعارضة السياسية، التي قد تأخذ أحد مسارَين، مسار الدعوة إلى المقاطعة الشعبية للاقتراع بما يحدُّ من نسب المشاركة أو الدعوة إلى المشاركة الشعبية الواسعة للاقتراع والتصويت ضدّ قيس سعيّد. ونتيجة الاحتمالين كليهما، ضربُ مصداقية الانتخابات وتمثيليتها.
لا أحدَ يُنكر ما أحدثه قرار بعض الشخصيات التونسية الترشّح للمنافسة في هذا الاستحقاق الانتخابي الهام في مستقبل البلاد من ديناميكية حرّكت، رغم محدوديتها، المياهَ الراكدةَ وكسرت حاجز الخوف، وأبطلت الادّعاء بأنّ الشارع الشعبي مساندٌ للرئيس سعيّد. مع ذلك، يثور السؤال: هل تُنهي الانتخابات الرئاسية العملية السياسية أم ستعطيها نَفَساً جديداً؟
واضح أنّ إرادة قيس سعيّد في صورة إعادة انتخابه لعهدة رئاسية ثانية تتّجه إلى مواصلة سعيه في القضاء على الحياة الحزبية، والاستئثار بالفعل السياسي والتحكّم فيه، وإخلاء الساحة من كلّ نَفَس معارض حزبي وغير حزبي، وتصفية إرث الأجسام الوسيطة من أحزاب وجمعيات. وعليه، ستكون هذه الانتخابات من منظور السلطة السهمَ الأخيرَ في جسم الحياة السياسية المُنهك أصلاً، وإسقاط الحجر الأخير من صرح البناء الديمقراطي الذي جاءت به ثورة الحرية والكرامة (2011)، ليتم بذلك وضع اليد على الدولة وإمكاناتها، وغلق المنافذ أمام التغيير، وبالتالي ستكون نهاية هذه الانتخابات إعلانَ نهايةِ السياسةِ أو موتِها في تونس. الحديث عن احتمال تغيير سعيّد بعد الانتخابات مقاربته في التعامل مع الشأن السياسي في اتجاه قدر من الانفتاح يسمح ببناء عملية سياسية تشاركية، يراه كثيرون ضرباً من الخيال لأسبابَ عديدةٍ، يتعلّق بعضها بشخصية سعيّد المُنغلقة، وبعضها الآخر برؤيته للسلطة والحكم القائمة على حكم الفرد الجامع للسلطات كلّها، الذي لا مُعقّب لحكمه.
أبان تعدّد المُترشّحين في الانتخابات الرئاسية التونسية من العائلة الديمقراطية تمحور سياسيين عديدين حول ذواتهم
في الجهة المقابلة، وإن عبّرت المعارضة السياسية لحكم قيس سعيّد عن قدر من التعافي، فإنّ ما تحقّق حتى اللحظة ليس كافياً، رغم أهميته، ليمثّل الجبهة المعارضة لحكم سعيّد المجتمعة حول مشروع وطني ديمقراطي مفتوح أمام القوى الديمقراطية كلّها، ينقذ الدولة من التفكيك الممنهج، وينقذ الاقتصاد من الانهيار. لقد أبان تعدّد المُترشّحين في هذه الانتخابات من العائلة الديمقراطية عن تمحور سياسيين عديدين حول ذواتهم، وحلمهم بتحقيق مجدٍ شخصي أكثر من المساهمة في بناء عمليةٍ سياسيةٍ مُعارِضة لحكم سعيّد.
ما حققته ديناميكية الانتخابات مُهمُّ جدّاً، ولكنّه سيبقى مبتوراً إذا لم تتقدّم المُعارّضة خطواتٍ عمليةٍ نحو تجاوز أسباب فشلها في عشرية الحرّية والانتقال الديمقراطي، ومنها أساساً الإقصاء إلى حدّ الاستئصال، وعدم الاعتراف بالمختلف، وغلبة الجزئي على الكلّي، والحزبي على الوطني. سيكون تطوّر المُعارَضة، من التشتت والصراع إلى الاتحاد والتشارك، معياراً مُهمّاً لقياس تعافي السياسة، وشرطاً ضرورياً وأساسياً لبناء عملية سياسية ديمقراطية قادرة على الفعل والتأثير، وتوفير شروط التغيير وتحقيقه.
السياسة هي فضاء لتنازع الإرادات في إطار يضمن تكافؤ الفرص، ويؤدي إلى التداول السلمي على السلطة. عندما تهمين إرادة وتغيب الإرادة المقابلة لها تختلّ العملية السياسية، وربّما تغيب أصلاً، وهو بالضبط الخطر الذي قد تواجهه تونس في صورة تواصل شتات المعارضة واستحكام أسباب وهنها. فهل تكون الانتخابات الرئاسية منطلقاً لنَفَس جديد للعملية السياسية في تونس أم إعلاناً نهائياً لنهايتها؟