إضرابات الجوع في تونس .. مجدّدا

27 ديسمبر 2021

احتجاج ضد الرئيس قيس سعيّد في العاصمة تونس (17/12/2021/Getty)

+ الخط -

منذ يوم الخميس الفارط، دخلت شخصيات حزبية ومدنية وسياسية في تونس، منضوين في جبهة "مواطنون ضد الانقلاب"، إضراب جوع، احتجاجا على تردّي الحريات ومناهضة للانقلاب. بهذا الحدث، تستعيد ذاكرة البلاد أشكالا من النضالات التي سادت تحديدا في فترة بن علي. وقد عرفت تونس هذا الشكل النضالي داخل السجون إبان فترة بورقيبة مع الحركات اليسارية المبكّرة، غير أنه لم يصبح شكلا يلجأ إليه السياسيون خارج السجون إلا مع بن علي، حيث انتشر هذا الشكل، وهو عادة سلاح الضعيف الذي يُشهره في وجه المستبد، واضعا أمعاءه بين كفيه ومخاطرا بحياته.
كانت أهم إضرابات الجوع التي شنّها التونسيون تلك التي أعلن عنها يوم 18 أكتوبر/ تشرين الأول 2005 ثلة من المناضلين اختلفت مشاربهم السياسية من المتحزبين وغير المتحزّبين، على غرار اليساري حمّة الهمامي والمحامين نجيب الشابي ومحمد النوري وسمير ديلو ورؤوف العيادي والإعلامي لطفي الحجي والقاضي مختار اليحياوي. وكان ذلك قبيل انعقاد مؤتمر القمة العالمية للمعلومات، وكان شعار الإضراب، الكبير والمدوّي آنذاك، الجوع ولا للخضوع. قدّم هذا الإضراب للعالم صورة بليغة تفيد عن وحدة التونسيين مهما كانت مشاربهم السياسية وقناعاتهم الأيديولوجية عن مطلب الحرية والديمقراطية، خصوصا في ظل حكم استبدادي ألقى عشرات آلاف المعارضين في غياهب السجون، وطوّع القضاء ودجن الإعلام... وكان زعماء العالم الذين توافدوا على القمة العالمية للمعلومات بعد أسابع قليلة يتابعون ما يجري في بلد القمة، واستفاقوا على فاجعة التضليل الذي كان يمارسها بن علي.

خلنا أن الزمن طوى إضرابات الجوع التي تُخاض لأسباب سياسية، غير أن الانتقال الديمقراطي المرتبك، والمنتكس حاليا، أبان عن هشاشة ديمقراطية

لقد أجبر أولئك على خوض إضراب الجوع، حين انسدّت أمامهم أي بارقة أمل في الإصلاح المدني من خلال العمل الحزبي، أو حتى أدنى أبسط مظاهر الاحتجاج، على غرار العرائض والإضرابات. كانت الفرق الأمنية تلاحق أدنى أشكال التحرّك السياسي وتنكّل بالمناضلين، لقد تتالت عمليات خطف المعارضين، ووصل الأمر إلى محاولات الاغتيال. تجمّع هؤلاء المناضلون في مكتب محامٍ أضرب معهم، وكان في وسط العاصمة، وتحول الإضراب إلى قمة سياسية عالمية، تشدّ إليه الأنظار قبل انعقاد القمة العالمية للمعلومات، وتمكّن المضربون من فك الحصار وكشف المهزلة التي كان يخفيها عن العالم نظامٌ تسلطي. 
لم تشهد تونس بعد فك الإضراب أي انفراج، وظل الاستبداد جاثما ما يناهز خمس سنوات، قبل أن تطيح ثورة شعبية هادرة نظام بن علي. بادرت البلاد إلى جملة من الإصلاحات التحررية، إذ شهدت تعدّدية حزبية حقيقية إلى درجة الفوضى، فثمة حاليا ما يناهز 230 حزبا، فضلا عن دستور يحمي الحريات والحقوق الفردية والجماعية. كما تمكنت البلاد من إجراء ما يزيد عن ست انتخابات ما بين تشريعية ورئاسية وبلدية .. اختفت إضرابات الجوع تقريبا، مع أن بعضهم لجأ إليها من أجل مطالب اجتماعية، على غرار الحق في الشغل والتنمية، كما أن بعضا من مساجين التيارات السلفية، وحتى مساجين الحق العام، خاضوها مددا قصيرة، وبأشكال وحشية أحيانا، مطالبين إما بتحسين ظروفهم أو بمحاكمات عادالة. وقد خلنا أن الزمن طوى إضرابات الجوع التي تُخاض لأسباب سياسية، غير أن الانتقال الديمقراطي المرتبك، والمنتكس حاليا، أبان عن هشاشة ديمقراطية، وجعل التونسيين أكثر تواضعا وإدراكا لحقيقتهم.

تقوم شعبية سعيّد على إيمان ساذج بأطروحاته الشعبوية التي تصوّره المخلص والمنقذ، غير أنهم يكتشفون يوما بعد آخر أنهم كانوا ضحايا خديعة كبرى

لم يصعد قيس سعيّد إلى السلطة عن طريق دبابة دخل بها القصر الجمهوري في قرطاج. هذه حقيقة مرّة علينا ألا ننساها، حتى ونحن نعارض انقلابه، ذلك أنه تمكّن من الديمقراطية المعتلة بكل أمراضها المستجدّة والمزمنة: حرب الوجود بين الإسلاميين والعلمانيين، تبخر أحلام الرخاء والكرامة التي وعدنا بها الفقراء والمهمشين، البيروقراطية المنفرة التي كلست الحرية والديمقراطية، وأوجدت لها جيشا كبيرا من المؤسسات والموظفين، من دون أن يرى الناس أشياء على الأرض، الفساد الذي ترك منافذ حتى يصعد مهرّبون ورجال إعلام وسياسيون إلى مناصب قيادية.
استغلّ سعيد كل أمراض الديمقراطية المعتلة في البلاد والانتقال الديمقراطي المتعثر، حتى يُحكم قبضته تدريجيا، ويعود بتونس "ديمقراطيا" إلى مربّع الاستبداد. يتمتع بشعبيةٍ ما، ولكن علينا أن نتذكّر أن بن علي كان يفوقه شعبية، ولكنها انهارت  في لمح البصر، وانفضت من حوله حتى قيادات حزبه العتيد. كانت تلك الشعبية تقوم على الخوف، أما شعبية سعيّد فتقوم على إيمان ساذج بأطروحاته الشعبوية التي تصوّره المخلص والمنقذ، غير أنهم يكتشفون يوما بعد آخر أنهم كانوا ضحايا خديعة كبرى، ها هو في أول ميزانيةٍ يقررها بمفرده، ومن دون أن يستشير أحدا يوقف أي شكل من الانتداب في الوظيفة العمومية.
لم يكتف سعيّد بالانقلاب على كل وعوده، بل سخّر القضاء لتصفية حساباته السياسية مع خصومه السياسيين، وضيّق على الحريات  الفردية والجماعية بشكل خطير. لم يستشر أحدا ونسف كل التوافقات التي بنيت بين مختلف الفرقاء السياسيين: محا بجرّة قلم الأحزاب والنقابات والمجتمع المدني والشخصيات الوطنية، واستحوذ على جميع السلطات، حتى استوى حاكما بأمره .. لهذا يخوض هؤلاء المناضلون إضراب الجوع، علهم يثنون سعيّد عن محو آثار الديمقراطية التي مرت بالبلاد.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.