إصلاح القطاع الأمني مسار لا يتوقف
خرجت ألمانيا، في نهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1945، بهزيمة النازية، من حطام مغامرة أدولف هتلر، لتجد أنها تمتلك جهازاً أمنياً مُداناً عن حق بحماية النظام السابق وقمع معارضيه والتنكيل بهم، فكان من الضروري أن تجهد الدولة الألمانية الحديثة، التي سعت ونجحت في إطلاق ورشة إعادة البلاد المدمّرة، وبمساعدة خارجية حاسمة، إلى إطلاق عملية إصلاحية جذرية وفاعلة في القطاع الأمني الوطني. وقد عبرت هذه الورشة عدة مراحل، اعتمدت أساساً على تصفية الأجهزة من القيادات الكبرى، والتي لم يُحاكم إلا الجزء اليسير منها. وهرب عدد من هذه القيادات إلى دول مشرقية استبدادية، كما إلى دول أميركية جنوبية ديكتاتورية استضافتهم بترحاب، واعتمدت على خبراتهم في إنشاء أجهزتها الأمنية. وقد تميّز حضور هؤلاء القادة الأمنيين الألمان النازيين في المنطقة العربية، كما في مصر وسورية، حيث كانت هاتان الدولتان في طور الخروج من نير الاستعمار الخارجي لكي تمكثا عقوداً تحت نير الاستعباد الداخلي بعد مراحل من التخبّط. وبالتالي، نجحت هذه الأنظمة "الوطنية" في عملية إجهاض مشروع إنشاء الدولة الوطنية الحديثة القائمة على عقد اجتماعي جنين لم يُقدّر له التمتع بالحياة. كما جرى صرف أفرادٍ كثيرين تعاطوا مع عمليات القتل والتعذيب من دون أن تثبت عليهم فعلاً. كما سمح للألمان بإطلاق ورشة الإعمار غير المادي الذي ارتبط أساساً بتحديث مفاهيم الانتماء وتوطين ثقافة أمنية إصلاحية جديدة.
وفي العقد السابع من القرن الماضي، تخلّصت أوروبا الغربية من آخر بؤر الاستبداد، وذلك في اليونان والبرتغال وإسبانيا. وبالتالي، أطلقت في تلك الدول برامج إصلاحية عدة، كان من أهمها وأخطرها إصلاح القطاع الأمني للخروج من ثقافة الاستبداد والخوف والترهيب إلى ثقافة الحرية والمواطنة والأمان. واستفادت هذه الدول من مساعدات كبيرة من المجموعة الأوروبية، قبل أن تصير اتحاداً، ساعدتها على تخطّي آثار الأنظمة البائدة بأقل الأضرار، ومن دون تصفيات قضائية كبرى. وقد تحوّلت شرطة كل من قاتل الجمهورية الإسبانية فرانكو، والمستبد البرتغالي سالازار، وضباط أثينا، إلى قوى أمنية، مهمتها الأولى والأخيرة حماية القانون وإنفاذه وحماية المواطن وحقوقه. كانت العملية صعبة نسبياً، لكنها نُفّذت بسرعة وكانت نتائجها مشجّعة جداً. وقد عرفت الحقبة نفسها تغيرات جذرية في أغلب جمهوريات الموز في جنوب أميركا وفي أميركا الوسطى، وكان على رأسها عودة التجربة الديمقراطية في الأرجنتين وفي تشيلي وفي البرازيل، بعد أن حكمتها نجوم أكتاف العسكر الواهنة عدة عقود. وانطلقت فيها أيضاً ورشات إصلاح للقطاع الأمني سعياً إلى تحويله إلى خدمة عامة، وليست محصورة بالقيادة السياسية المهيمنة.
تم السعي إلى إنفاذ عملية إصلاحية انطلاقاً من مفهوم إعادة تشكيل (أو تعريف) العقيدة الأمنية في دول أوروبا الشرقية
في نهاية العقد الثامن من القرن الماضي أيضاً، وبعد نجاح دول أوروبا الشرقية في عملية الانتقال السياسي من النظام الأمني الشمولي إلى النظام الحر والتشاركي، وذلك إثر تحرّرها من سيطرة الاتحاد السوفييتي الذي كان في طور الانهيار، وانتقالها التدريجي، والمتعثّر أحياناً، إلى صفوف العالم الحر نسبياً، نشطت المنظمات الدولية والإقليمية الحقوقية، وتلكم المتخصّصة في إصلاح القطاع الأمني تحديداً، في طرح وتنفيذ مشاريع تهدف بدايةً إلى نشر ثقافة أمنية جديدة في تلك الدول التي عرفت، وخلال عقود، عقلية أمنية شاملة، مارست القمع المنهجي ضد شعوبها، سعياً إلى الحفاظ على أمن السلطة الحاكمة، واعتباره السبب الرئيسي لوجودها. ومن ثم، طرحت هذه المنظمات برامج تنفيذية ساعية إلى إطلاق عملية الإصلاح الأمني بشكل فعّال، وحسب خصوصيات كل وضع محلي. وتم السعي إلى إنفاذ عملية إصلاحية انطلاقاً من مفهوم إعادة تشكيل (أو تعريف) العقيدة الأمنية في هذه الدول، بحيث يتحوّل الجهاز الأمني إلى القيام بعملية حماية أمن المواطن ضد أي نوع من التهديدات، بعد أن انشغل عن ذلك بحماية المصالح الضيقة للسلطة الحاكمة، وبعيداً عن أي مفهوم للانتماء الوطني.
استعيض في بعض الدول العربية الأمنوقراطية عن إصلاح العقيدة الأمنية بتحديث الأجهزة الأمنية وبتمويل دولي
مع بدء الأمل بإصلاحات سياسية، حتى لو كانت خجولة وتدريجية، أُطلقت برامج إصلاح القطاع الأمني في بعض الدول العربية الأمنوقراطية، سعياً حيناً إلى إرضاء الحليف الغربي بأن شيئاً ما إيجابياً يحصل على مستوى الداخل المستبدّ به، أو سعياً إلى نشر إشاعات إعلامية عن عمليات إصلاح وتحديث وتطوير. وبدأت هذه الدول بتنظيم المؤتمرات المخملية لاستقطاب خبراء دوليين يتحدّثون عن القطاع الأمني وحقوق الإنسان وسواها من القضايا النظرية حتماً، والمراد من خلالها إلهاء الرأي العام المحلي والخارجي. وفي المقابل، لم يجر تنفيذ أي إصلاح حقيقي على أرض الواقع، بل استعيض عن إصلاح العقيدة الأمنية بتحديث الأجهزة الأمنية وبتمويل دولي، فاستقدمت سيارات للقوى الأمنية، كما جرى تحديث المخابر الجنائية وتغيير زي رجال الشرطة. وقد اعتبرت بعض الأقلام المستأجرة أن ما يجري هو إصلاحٌ للقطاع الأمني، وبعيداً عن أي مسّ بالعقيدة الأمنية، وقبلت الجهات المانحة الغربية بهذه المسرحية.
يجب أن تكون عملية إصلاح القطاع الأمني مستدامة. وما يجري اليوم في فرنسا من تسجيل لتجاوزات بعض رجال الأمن في التعامل مع المتظاهرين مؤشّر على ضرورة تعزيز رقابة السلطة التشريعية المنتخبة والمؤسسات الحقوقية الوطنية على المؤسسة الأمنية انطلاقاً من دورها في حماية القانون والمواطن. وهو الأساس دائماً.