إسلام بحيري ورامتان وطه حسين

08 اغسطس 2024

(علي بنيصدر)

+ الخط -

أحياناً، يكون التحنث لعوالم الكتابة أجمل من تحقّقها، حتّى وإن طال الصبر عليها وانتظارها، كأنْ تُحرمَ من محبَّة ما، وكأن ترى طيفها في طريق، أو حُلم، أو ذكرى، أو حديث، أو مرسال لا يقصد أيَّ شيء سوى الحديث، فيُشعل حديثُه الذكرى من دون أن يعرف أنّه يقلّب الجمر.
عرفتُ أخيراً أنّ أحدَ الأصدقاء الأجلّاء لطه حسين أهدى إليه بيتاً صغيراً في قرية في المنيا بصعيد مصر، على مقربة من مكان دفن "شهيدة الحُبّ"، كما سمّاها طه حسين؛ "إزادورا"، وكان طه حسين كلّما ذهب إلى هذا البيت المتواضع، الذي سمّاه أهل تلك القرية بـ"السراية"، شرق النيل، أشعل لـ"إزادورا" البخور في قبرها، وهو البيت المتواضع نفسه الذي صُوِّرت فيه أجزاء من فيلم "دعاء الكروان". وحكى لي الناقد وأستاذ الأدب والنقد بجامعة المنيا، محمد مدني، أنّك "إذا تمعّنت في قراءة هذه الرواية فستشم روائح المنيا وقراها حاضرة"، وما زلتُ لم أقرأها، هل لأطوى عامداً ذلك الحرمان، وأظلُّ على ذلك التحنّث للجمال من بعيد، وخاصّة وأنا ابن تلك المنطقة؟
كانت "إزادوارا" فتاةً رومانيةَ الأصلِ في الـ18 من عمرها، وهي ابنة حاكم الإقليم بالمنيا، وكانت رائعةَ الجمال، وأحبَّت ضابطاً مصرياً من طاقم حماية والدها حاكم الإقليم. وكي ترى حبيبها، عبرت النيل، ولكنّها غرقت، فدُفِنت أمام المكان الذي غرقت فيه، وهو قرية الشيخ عبادة شرق النيل، وهناك اختار صديق طه حسين مكان البيت الذي سوف يهديه لطه حسين. وفيما بعد، عرفت أنّ ذلك الصديق كان عالِم آثار كبيراً، وكان عديلاً لطه حسين أيضاً. تأمّل كرم الأيام العظيمة كي تضحك بعد قليل على تفاهة أيامنا، وقلَّة شأن نُخَبِها. ذلك كلّه عرفته بفضل المصادفة، وكتاب "الأيّام المنسيّة لطه حسين" (المجلة العربية، كتاب العدد 574، يوليو/ تمّوز 2024)، لكاتبه إبراهيم عبد العزيز.
الكتب، حتّى وإن كانت بسيطة النيّة والجهد، إلا أنّها هدايا تأتي في أوقاتها تماماً، ولم أكن بعد قد عرفت أنّ ماريا القبطيّة، وأختها سيرين، اللتين أرسلهما المقوقس للنبي عليه الصلاة والسلام من قرية الشيخ عبادة نفسها، تلك القرية التي دُفِنَ فيها رفات "إزادورا"، ولا كنت قد عرفت أنّ كاتب فيلم "ظهور الإسلام" (1951) عن روايته "الوعد الحقّ"، هو نفسه طه حسين، وبفلوس ذلك الفيلم استطاع طه حسين أن يشتري، بسعر ذلك الوقت، أرضَ رامتان، كما يقول إبراهيم عبد العزيز في كتابه: "ولما بنى طه فيلا رامتان من أجره من فيلم ظهور الإسلام، المأخوذ عن قصة "الوعد الحقّ"، لأن كتبه لم تكن تدرّ عليه أموالاً يستطيع بها أن يبنى مسكناً، ولما قلت له: مبارك الفيلا، قال لي: فيلا إيه يا ابراهيم ده حتة مكان لا طلع ولا نزل". والمقصود بالطبع بإبراهيم، هو إبراهيم الإبياري، المُحقّق اللغوي بمجمع اللغة العربية، والسكرتير البرلماني لطه حسين في أثناء تقلّده منصب وزير المعارف، وليس إبراهيم عبد العزيز، الذي أعدّ كتاب "الأيام المنسيّة"، فما دخل ذلك بإسلام بحيري في العنوان؟
لاحظ أنّنا في زمان، من فرط عجائبيته، تتداخل الأحداث في كوميديا، ودراما من نوع غريب، ما يثير الأسى، كما في حالة غرق "إزادورا" أمام قرية الشيخ عبادة في أيام الحاكم الروماني، وما يثير الضحك والمسخرة التي لا تحتملها الكتب أو الموسوعات، وهي تذكّرني بلصوص تجّار القطن وألاعيبهم في العشرينيّات والثلاثينيّات من القرن الماضي، تماماً هي أفعال صغار المُفكِّرين ودعاة التنوير والتكوين، والتكويش أيضاً، والهبر والهبرات، فقد قرأتُ وأنا أتصفّح كتاب إبراهيم عبد العزيز غارقاً في دموع "إزادورا"، وبخور الراحل طه حسين، ذلك الخبر، الذي أنقله بالنصّ خوفاً من اختلاط البلاغتين، بلاغة الحبّ عن طه لذكرى شهيدة الحُبّ قبل الميلاد بقرنين، وبلاغة التكويش والتكوين والنصب والاحتيال، والهبر والتهبير، وآسف من فرط بلاغة المصطلح الأخير، وذلك بسبب فرط أكاديميته وعلميته الحادّة.
في خبر إسلام بحيري، في أيّام لا نعرف ما لونها أو ما أصلها أو ما فصلها أو ما منبتها، وقد يكون ذلك مدعاة للترحّم على طه حسين، الذي تبرّع أيضاً بمبلغ 500 جنيه كي يكون لـ"إزادوارا" مزاراً عالمياً بالقرب من مسقط رأسها في المنيا في تونة الجبل بقرية الشيخ عبادة، وهو تقريباً نفس المبلغ الذي اشترى به رامتان في حينه، بعدما أخذ "السراية" هديةً أو المنزل المتواضع جدّاً من عديله الآثاري الكبير، والخبر الذي يخصّ إسلام بحيري هو كالآتي: "سيدة تقيم بالخارج أرسلت مبلغ ثلاثمائة ألف درهم إماراتي للسيد المُفكّر إسلام بحيري، بعد ما أقنعها بأنّه سيشغّل لها المبلغ في البورصة، ولما اكتشفت أنّه لم يرسل لها الأرباح بعد سنتين من تحريره لها شيكاً بالمبلغ المُرسَل، ذهبت كي تصرف الشيك فوجدته بلا رصيد، والأمر كلّه الآن في قسم شرطة أول أكتوبر"، على حدّ تعبير صحيفتي الدستور والمصري اليوم. فهل ذلك اختلاف أجيال، أم زوال قيم من أساسها وبنيانها؟