أن تحافظ على طيبة القلب وتبتسم

01 فبراير 2024

(محمد عبلة)

+ الخط -

في هذا الصباح الطيّب، والذي ترى فيه قلبك طيّبا من غير سبب، وجميلاً من غير سبب، بعدما تعارك في يوميْه السابقين، كي يعتدل المركب، مركب الأيام، أو مركبك، مركب الذات في عالم يفيض، كل يوم، بالتناقض والهزائم والانتظار وسوء الفهم والنكران.

ما الذي يجعل القلب فجأةً يبدو مسروراً من غير سبب وبسيطاً أيضا، ويصفو الشاي، وترى الناس خفافا في الشارع.

كيف يأتيها هذه العضلة ذلك الانشراح وتلك البساطة في صبح، هل حقا القلب هو ما تمتلكه من خيالٍ يمشي معك، يمشي معك وأنت في حديقة ورد تسير به متناسيا الدنيا، ونظرك يأخذك في الصباح إلى هناك، إلى مركبٍ صغيرٍ وفقير وبائس في وسط النهر به صبي أو أكثر، والمركب من بعيد يعاند ويمشي وقلبك يرصد المشهد الطيّب من بعيد. يجلس القلب هكذا طيّبا في المقهى، وكأن لا حرب ولا يحزنون، ولا عنف، ولا عوز، ولا أذى. كيف يتكيّف القلب مع العالم، فيدخل حديقة الورد وهو يتمسّح في الفرح، ويدخل بالقلب نفسه مركز الشرطة، قلعة العقاب، وهو يتحايل على عقارب الساعة، ويعتبر القلب أن كل البشر مساكين، ولكنهم فقدوا الخيال، فهل القلب مصنوعٌ من أجنحة الخيال حقاً وليس من الأنسجة، وتدخل بالقلب على العجائز في سرادقات العزاء، فترى الموت ناعسا ومركونا في جانبٍ من العيون التي هدّها التعب، فتقول لقلبك: إلى متى يتأمل الإنسان طول عمره ويشتهي المزيد منه، حتى وهو في سرادق عزاء والموت أقربُ إلى عينيه من القذى.

هل القلب هو الذي يطيل أعمارنا حتى يهمد فيه الفرح تماما، ونطلب العون من الله وحده بأن نكون إلى جواره، لا في مقهى، ولا حديقة، ولا مركز شرطة، ولا سرادق عزاء، ولا بالقرب من النهر، ونرى هناك ذلك المركب الفقير الذي يعاند في سرقة الفرح من الماء والرزق من السماء. القلب هذا الطيب فجأة في هذا الصباح يأخذك إلى ما لا كنتَ تحلم به.

هل بالخيال وحده حقا نستطيع، ولو خيالاً، تجاوز نكران الدنيا، وهل بالخيال نستطيع الوصول إلى العفو قدر ما نستطيع؟

قيل في الأثر: "ويل للشجي من الخلي"، فلماذا دائما يكون الخليّ مربوطا بوتد الدنيا وحبائلها ويكون الشجيّ بخيالاته موضع الويل من الدنيا ومن الخلي أيضا، هل السياسات الجائرة تجور أيضا على نعمة الخيال؟

حينما تكون السياسة مجرّد حبائل منصوبة يضيق الخيال والوطن معاً، ما سر سماحة هذا الصباح مع صفاء ذلك الشاي، وخصوصاً وأنا أسمع ذلك العامل يكلم رجلا بجواره وكأنه يكلم نفسه: "اليومين قليلين يا ابن عمّي".

كنتُ قد أحببت أن أرى مدينة "إسنا" لا من أجل أي مصلحة، فقط لأنني رأيتُ شارعا يشبه شوارعنا زمان، تلك التي لم تعُد، وعلى المقهى كان الشاي رائقا، وذلك العامل الذي وكأنه يكلم نفسه، وجاره لا يعلق على كلامه، فقط كل آن يلتفت التفاتةً صغيرةً له ويداعب عدة البناء التي بجواره، كنت لا أنتظر أي شيء، ولا أعرف ماذا كان ينتظر ذلك العامل ولا صاحبه.

كانت شوارع إسنا أمامي في الصباح هادئة وتذكّرت صديقا لي من إسنا في كتيبتي العسكرية، كان اسمه عبد الرحيم وكان طيّبا جدا، وكان يأخذ خدمته الليلية بالسلاح دائما على "الذخيرة"، وكان دائما معه كتابٌ من كتب عالم المعرفة، وكان متسامحا في كل شئ حتى نصيبه من الأكل ويقول كلماته العادية "بسيطة". كان السادات قد قُتل من شهور. وفي الصباح، في نهاية الخدمة (الحراسة الليلية)، يأخذ عبد الرحيم سلاحه وكتابه والطلقات، ويمشي هادئا إلى دشمته، يعدّ كوب الشاي ويطل من فوق الدشمة لأوائل الشمس والعصافير وهي تتشاكس، وأحيانا يأتي بفتات الفينو الناشف وينثرها للعصافير ويبتسم ويعاود قراءة الكتاب، قلتُ: هل من الممكن أن أراه فجأة بجواري يشرب الشاى في مقهى.

جاءت العصافير، فعزّزت عندي ذلك الحلم، إلا أنني ظللتُ سعيدا خلال اليوم من دون أن أراه، وكنتُ قد نسيت ذلك العشم الخيالي كاملا. في المساء، كنت أجلس بجوار النيل، وأسأل نفسي أو خيالي: لماذا تصفو الروح تماما، بلا سبب ولمّ يتعكّر المزاج أيضا بلا سبب؟

كنتُ قد نسيتُ ذلك العامل تماما، ونسيتُ أيضا ذلك الشخص الذي يجلس أمامه ولا يشاركه إلا بنظرات قليلات ويتشاغل بعدّة البناء التي بجواره، فهل العصافير أكثر سعادة بالرزق من عمّال البناء، وهل كان عبد الرحيم زمان فوق الدشمة بالجيش يعرف سرّ سعادة العصافير حينما كان يأتي لها بفتات العيش الفينو ويظل يبتسم حتى تطلع الشمس ويسلّم سلاحه "للسلاحليك" ويعود إلى الدشمة مبتسما.

720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري