أميركا بين التطرّف والديمقراطية

10 يناير 2022
+ الخط -

"من دون اتخاذ إجراء فوري، فإنّنا نواجه خطر نشوب صراع أهلي وفقدان ديمقراطيتنا الثمينة..."... لم تصدر هذه الكلمات عن زعيم سياسي في دولة عالم ثالثية لا تعرف الديمقراطية أو لا تزال في بداياتها، بل صدرت عن رئيس سابق في دولةٍ تكاد تتزعم ما يمكن اعتباره معسكر الديمقراطية في العالم. بهذه الكلمات، اختتم الرئيس الأميركي السابق، جيمي كارتر، مقالاً له في صحيفة "نيويورك تايمز" بمناسبة الذكرى الأولى لعملية اقتحام الكونغرس في 6 يناير/ كانون الثاني 2021.
عبّر كارتر عن حالة القلق التي تسود قطاعات واسعة من الأميركيين، خشيةً على المبادئ والقيم التي يحلو لهم تسميتها "الديمقراطية الأميركية" كما لو كانت نموذجاً خاصاً بهم. ولا يعني ذلك أنّ الديمقراطية الأميركية مُحصَّنة ضد الانتهاك أو أنّها نموذج خالٍ من النواقص والأخطاء، فهي ككلّ نظام سياسي وضعه البشر، ليست مثالية ولا كاملة، فما شهدته واشنطن العام الماضي إشارة خطر، ليس بخصوص الآليات الديمقراطية أو القواعد التي يتبعها النظام السياسي الأميركي، بل بشأن جوهر الليبرالية والمبادئ والقيم التي يهتدي بها المجتمع الأميركي، فهو تغير مجتمعي بالأساس وتحول حقيقي في النسق الثقافي للشعب الأميركي، وفي التركيبة القيمية لشرائح من الأميركيين، ربما لم تتسع بعد لتشمل كلّ المجتمع أو غالبيته، لكنّها بالتأكيد تتمدّد أفقياً ورأسياً.
أما اليمين المتطرّف الذي بدأ يزحف على الشارع الأميركي، الاجتماعي والسياسي، فقد صار ينتظم في كياناتٍ وجماعاتٍ يتوافق أعضاؤها ويشجع بعضهم بعضاً على ممارسة كل أنواع العنف والإقصاء، تجسيداً لأفكارها وقناعاتها العنصرية بامتياز. وليس لدى هذه التكوينات الجديدة أي مانع من اللجوء إلى الآليات التقليدية المتبعة في السياسة الأميركية للوصول إلى السلطة والسيطرة على مفاصل الدولة، لكن من دون أي قناعة حقيقية بها، فهي لديهم وسيلة مرحلية فقط إلى حين امتلاك القدرة على سحق إرادة الآخرين وإخضاع كل المختلفين عنهم ومعهم.
يمكن بسهولة رصد تجليات هذه الأفكار وتطبيقاتها لدى بعض رموز الطبقة السياسية والاقتصادية، في أداء دونالد ترامب خلال فترة رئاسته، وفي إصراره العنيد على أن نتائج الانتخابات كانت في صالحه، والتمسّك بالعودة إلى البيت الأبيض في انتخابات 2024. أما الظهير الشعبي لهذه النخب المتطرّفة، فهو الأكثر حضوراً وتأثيراً وفاعلية في الشارع الأميركي، وإن ليس بشكل مطلق، إذ لا يزال الأميركيون الديمقراطيون المتسامحون أكثر حضوراً وهيمنة (حتى الآن).
ومن أبرز التجليات المبكرة لذلك الصراع المنتظر في الولايات المتحدة، ذلك السجال الدائر بشأن القوانين الانتخابية، مثل قانون "عدّ الأصوات" وقواعد توزيع الدوائر والضمانات المصاحبة لآلية المجمع الانتخابي. وسيتنازع الديمقراطيون والجمهوريون تعديل تلك القوانين، كل في صالحه، إما لتحرير الكونغرس من سطوة حكام الولايات والهيئات الناخبة، وإما نحو مزيد من الاحتكام إلى أصوات الناخبين المباشرة. ليس من المتوقع، بالطبع، أن ينتهي سريعاً الجدل القانوني/ السياسي الجاري، لكن المؤكّد أن الحراك والتحولات المتسارعة في المجتمع الأميركي ستنشئ حالة صراع وتنازع مجتمعي، تتمظهر بدورها في صراع سياسي وقانوني.
واشنطن مقبلة، إذاً، على مرحلة صعبة من التضاغط والتنازع الداخلي، ليس فقط على السلطة الحكومية، بل بالأساس على السلطة الحقيقية المنتشرة عبر الولايات، أي المنظمات غير الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني، فضلاً عن الأذرع السياسية والفروع المحلية للكيانات الاقتصادية الكبيرة. فإذا تأزم الموقف ولم يُحَلّ قانونياً ولا سياسياً، فإنّ الاحتراب الأهلي سيكون الوحيد مساراً مثيراً للجميع. وهذا ما فطن إليه كارتر وحذّر منه. وحينئذ، لن يكون هناك مخرج من هذا المنحدر نحو الهاوية، إلّا باستعادة الأميركيين القيم والمبادئ التي غذّت الروح التكاملية الأميركية في الماضي، وأسست الدولة الاتحادية بعد حربٍ أهلية ضروس، وهو احتمال لا يزال قائماً، وإن لم يعد مؤكّداً بالمرّة.

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.