إيران وإسرائيل... عود على بدء
بعد طول انتظار وترقّب، أخيراً وجّهت إسرائيل ضربةً انتقاميةً إلى إيران، ردّاً على هجماتٍ شنّتها طهران قبل أسابيع على الأراضي الإسرائيلية. ويمكن تلخيص المشهد في كلمتَين، "ضربة في مقابل ضربة"، إذ بات مفضوحاً بشدّة حرص الطرفين على تحجيم المواجهات وعدم انفلات الموقف أو امتداده إلى حرب شاملة بينهما. وقد كان هذا موقفاً إيرانياً واضحاً منذ البداية، بل منذ شنّت إسرائيل حربها الشرسة على قطاع غزّة في اليوم التالي لهجمات 7 أكتوبر (2023)، حينها تجنّبت طهران بشكل كامل أيّ سلوك يضعها في مواجهة فعلية مع تلّ أبيب. وتأكّد هذا الموقف الإيراني الضعيف مع تمادي إسرائيل في التصعيد والاستفزاز، باغتيال إسماعيل هنيّة فوق الأراضي الإيرانية، ثمّ اصطياد قيادات الصف الأوّل في حزب الله، الذراع الإيرانية الطويلة في المنطقة، بمن فيهم الأمين العام للحزب حسن نصر الله. وزاد الموقف الإيراني ضعفاً وتراجعاً في التقديرات الإسرائيلية، الخطاب السياسي والإعلامي الخجول في التعاطي مع تلك الصفعات المتتالية.
ولأن إسرائيل ذهبت بعيداً في جموحها العسكري في أكثر من جبهة، تحرّكت الولايات المتحدة لوقف شطط نتنياهو، تجنّباً لانفجار المنطقة واشتعال حرب إقليمية في توقيت حرج قبيل الانتخابات الرئاسية الأميركية، فباشرت واشنطن حملةً دبلوماسيةً مكثّفةً ومتعدّدة الاتجاهات، غرضها الأساس نزع فتيل تلك الحرب المحتملة، وترشيد اندفاع بنيامين نتنياهو.
اللافت في هذا التسلسل للأحداث، أن واشنطن انتهى بها الأمر وسيطاً بين إسرائيل وإيران. ومالت في هذه الوساطة إلى الضغط على تلّ أبيب لضمان تحجيم التصعيد الجاري. وكان هذا بمثابة مخرج مثالي لإيران منقذ لها من مواجهة إسرائيل، والتعرّض لمزيد من الانكشاف الإقليمي.
وبينما حقّقت طهران وواشنطن مكاسبَ فعليةً من ذلك الإخراج السينمائي لمشهد المواجهة المرسوم بدقّة، والمحكوم بحدود ضيّقة، تبدو تلّ أبيب الأقلّ مكسباً على الأقل معنوياً، غير أنها تملك بالفعل تعويضاً مسبقاً يتمثّل في الإنجازات الهائلة التي تحقّقت خلال الأشهر الماضية بضرب البنى التحتية لحزب الله، وتصفية كوادره القيادية العليا، فضلاً عن الدمار الشامل لقطاع غزّة جرّاء العمليات العسكرية المستمرّة حتى الآن. كما أن انصياع إسرائيل لطلب واشنطن عدم التمادي في التصعيد مع إيران، لم يكن مجّانياً؛ فقد حصلت تلّ أبيب على منظومة دفاع صاروخي متقدّمة (ثاد)، وحازت غطاءً سياسياً ودعماً استخباريّاً مباشراً لهجماتها أخيراً على إيران، فضلاً عن دعم أميركي غير محدود للخطط والتصوّرات الإسرائيلية المستقبلية حول مسائل عدّة، تشمل مستقبل قطاع غزّة، وإعادة ترسيم الوضع في لبنان، واستئناف التحرّكات الرامية إلى التطبيع مع دول عربية، وهو ما يمكن إجماله في عنوان واحد هو "شرق أوسط جديد".
في المقابل، خرجت إيران من مأزق مواجهة إسرائيل بخسائر محدودة، ومحصورة في ضرب منشآت عسكرية، ومقتل عدد قليل من العسكريين. ما يُعدّ بالنظر إلى تفاوت القدرات والمواقف والأوزان مكسباً سياسياً، بل عسكرياً. فبعد الخسائر المباشرة المتتالية في لبنان وسورية وفلسطين، والانكسارات السياسية المترتّبة عليها، يُعدّ إنهاء التوتّر الحاصل مع إسرائيل هدفاً في حدّ ذاته، على الأقلّ لحين إجراء الانتخابات الرئاسية الأميركية وتحديد شخصية الرئيس الأميركي المقبل. كما ستستغلّ طهران الأيام المقبلة لتجديد شرعية النظام في الداخل، ولبلورة رؤيةٍ لترميم شبكة حلفائها الإقليميين.
في المحصّلة، لا جديد بين إيران وإسرائيل، فالعلاقة على حالها، لا هي تحالفية ولا صراعية بالمعنى الدقيق للكلمة. وتظلّ التفاعلات بينهما محكومةً بقواعدَ للعبة متّفق عليها صراحةً أو ضمناً، وبحدود للمواجهة أو التغاضي، قد تتّسع أو تضيق، لكنّها حاضرة ونافذة دائماً.