ألبير قصيري .. المفتون بسيادة نفسه

28 يوليو 2022
+ الخط -

أخذ من الكتابة عزتها وكرامتها، ورمى قشورها للباحثين عن الشهرة من شبّاك غرفته، لأنه أحسّ بأن البحث عن المال، وحتى بالعمل والجري، قد يضرّ بالكرامة، كرامة مسعاه الذي لم يكن لا محلّ تفاخر ولا طبلاً ولا وطنيّة زائفة ولا ادّعاءات فاسدة، لأنّه في الحقيقة لم يكن يسعى إلى شيء سوى الراحة والبعد عن الزحام.

كان سيداً عزيزاً في كسله الخاص، والكتابة عنده لم تكن موضع تهليل أو تفاخر، بل وقار خاص جداً، وقار يبلغ حد المخاصمة لها بغير جفاء، أو الاكتفاء منها بجملة واحدة في اليوم فقط، وهذا عنده كان يكفيه، رمى توابع الكتابة من الشبّاك، ثم أغلقه كي يعيش عقوداً في باريس سيداً لنفسه فقط، مكتفياً بجواز سفره المصري أزيد من خمسين سنة، وكأنّه يحفر لنفسه هامشاً غامضاً لوحيد في باريس من دون أن يقصد ذلك أو يدّعيه أو يعرفه أو حتى يشير إليه ولو حتى من طرفٍ خفيٍّ. كان قد كره الإشارات كلها ورماها في البحر خلف ظهره من عقود، وكان لا يبغي من باريس سوى غرفة في فندق تكفيه فقط وكفى.

كانت نفسه واثقةً من عزّتها في غرفة وحيدة، شيء يشبه الزهد، لكنّه كان بعيداً جداً عن الزهد ومختلفاً مسلكاً وغاية، شيء يقرّبه من زهّاد الشرق، من دون أن يكون منهم، لأنّه لا يتحمّل أن يرى الجمال من دون أن يتأمله، ودائماً كان ينتظره مثل صقر هناك لا يعبأ لا بالولائم ولا بالصيد ولا بالبقايا، كان صقراً كنفسه، ونبيلاً كنفسه، وعاش هائماً وحيداً كنفسه، بلا خيلاء ولا ادّعاء حاجة، ولا أيّ تفريط في كرامة. كان نبيلاً وكأنّه قد سقط من قرن سابق في حي صغير اسمه "الفجّالة" قريباً من "محطّة مصر". كتب من خلال ناسه والأماكن القريبة جداً منه، عن شبه المعدمين منهم أو الممسوسين والشحاذين والنبلاء أيضاً بأرواحهم وسلوكهم أهم أعماله، مثل "منزل الموت الأكيد" و"شحاذون ونبلاء" وغيرهما.

شيء وحيد أربكني في سيرة هذا الكسول العزيز على نفسه جداً، أن أعرف أنّه عمل في بداية حياته العملية الغامضة "مساعد بحّار" لا لشيء، إلّا كي يرى الموانئ التي كم اشتاقها، كي يكتب عنها كما يحلو للكتّاب الذين تراودهم الرحلة في بداية تحنّثهم للأدب والكتابة. وبالفعل، زار عدة مدن وموانئ، إلى أن خطفته باريس التي دخلها، مساعد بحّار، فنسي عمله، وفتنته به، وظل فيها أزيد من خمسين عاماً إلى أن رحل بمرض سرطان الحنجرة "وكأنّ الكلام كان مفتاح علته وموته". أما ما أراه طبيعياً جداً فأن يلتقي هذ الكسول العربي، الشرقي، بأحد أعظم كتّاب القرن العشرين، ومن أصول شرقية أيضاً، والكسول أيضاً، الأميركي هنري ميلر صاحب "مدار السرطان" و"مدار الجدي". ويقف ميلر وراء نشر أول مجموعة قصصية لألبير قصيري. الشيء الثالث والغريب أيضاً أنّه اشترك في كتابة عدة سيناريوهات للسينما، وأظنها كانت تلك بمثابة الجزء الأساسي الذي يعتمد عليه في العيش بباريس من دون أن يحمل جنسيتها أو يكلف نفسه عناء طلبها، رغم أنّه كان ملء السمع والبصر في باريس ومنتدياتها ومقاهيها، وعلى علاقة وطيدة بسارتر وألبير كامي الذي كان يكن له مودّة فائقة، لكنّه كان يفرّ من تبعات الشهرة ويبتعد عن الإعلام طوال حياته، فكيف استطاع ذلك الكسول أن يوفي عمله في كتابة السيناريوهات أو الاشتراك في كتابتها، خصوصاً أنّه من أكابر الكسالى، وعاش طول حياته على عائد مواريث من أرض زراعيةٍ كانت تملكها العائلة بدمياط.

هذا المصري الهارب من مصر إلى باريس لم تغره باريس للكتابة عنها رغم أنّه كان يجيد الفرنسية قراءة وكتابة، ويكتب بها من بداياته، إلّا أنّه لم يكتب عن باريس، بل عن فقراء مصر ومعدميها ولصوصها الفقراء "كالدجاج والماعز" وعن ساعي البريد الفقير الذي يقرأ، وعن شحّاذين نبلاء، تركوا شهاداتهم وأسرهم المستورة وجامعاتهم وراء ظهورهم، واكتفوا بالمخدّر أو التسوّل أو انتظار الغواني في غرف فقيرة، كان بعضهم لا يمتلك فيها من متاع سوى أوراق الجرائد القديمة فقط فوق الأرض، سيرة محيّرة وكتابة أكثر إرباكاً، إلّا أنّ معظم من قرأوا أدبه شهدوا له، بأنّ كتاباته مصرية حتي النخاع، ليس بشخصياتها فقط، لكن وكأنّه أدب كتب أولاً بالعربية أسلوباً ثم ترجم إلى الفرنسية ولم يكتب بالفرنسية أولاً، رغم أنّ ألبير قصيري (1913- 2008) لم يكتب بالعربية سطراً واحداً طوال حياته. وكان يتكلمها بضعف شديد، خصوصاً بعدما طالت سنواته في باريس، وخصوصاً بعدما رحلت عنه أمه "الوحيدة التي كانت لا تجيد القراءة أو الكتابة" وكانت تحدّثه بالعربية، فلما رحلت أحسّ أنه يتيم إلى كلماتها العربية التي كانت تحدّثه بها.

هذه حالة خاصة في الأدب لا تقلد، لا هي فرانكفونية، رغم كتابتها بالفرنسية، ولا هي عن باريس ولا مقاهيها، لكن هي من دماء المصريين وعرقهم ونكدهم وسخرياتهم الباقية بقاء هذا العالم.

720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري