فلسطين في عيون وقحة
لو سلّمنا بمنطق هؤلاء الحكماء اللطفاء الإنسانيين جدًا في المساواة بين حياتي الجاني والمجني عليه، ودم القاتل والقتيل، وحقوق الغاصب والضحية، لوضعنا كل الأبطال الشعبيين والمناضلين التاريخيين من أجل أوطانهم تحت طائلة الاتهام بالإجرام والإرهاب.
لو طبّقنا هذا المنطق على كل بطل في ملاحم البطولة الفردية في مصر قتل واحدًا من قوات الاحتلال البريطاني في نهايات القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين لكانوا جميعًا مجرمين إرهابيين أعداء للإنسانية.
غير أنه من حسن الحظ إنه لا تزال هناك استقامة في التفكير وسلامة في الوجدان والضمير تجعل مقاربات أشخاصٍ مثل محمد البرادعي ونجيب ساويرس وعمرو حمزاوي من مسألة الكفاح الفردي الفلسطيني تجعلها محض مماحكاتٍ ساذجةٍ تثير السخرية والأسى بأكثر مما تدعو إلى التأمّل والتفكير فيها بجدّية، فتبقى مجرد معلبات منتهية الصلاحية يجري طرحها في المناسبات ذاتها، فيكون الردّ عليها بالازدراء ذاته، مع كل عملية بطولية فلسطينية ضد المستعمر الصهيوني.
هؤلاء "الشرق أوسطيون" من نوعية البرادعي وساويرس حريصون على إظهار مواقف يخاطبون بها من يهمه الأمر في الدوائر الغربية، فالبرادعي تحديدًا لا يستطيع أن يغادر وضعية "الموظف الأممي السابق" في تناوله أمورا عربية محلية، بالحساسية ذاتها التي يقترب بها من أية إشكالية أخرى في أقصى شرق آسيا، أو جنوب أميركا اللاتينية، ومن ثم قضية فلسطين بالنسبة له ليست أكثر من مسألة حقوق إنسان لا يبحث عن أكثر من تحسين ظروفه المعيشية تحت الاحتلال، أما مسألة المقاومة المسلحة هذه فهي جريمة تستوجب الإدانة.
يريد الرجل أن يصادق باراك ويدّعي قربًا من الفلسطيني في الوقت ذاته. وأبعد من ذلك، يذهب رجل الأعمال المدان بحكم المحكمة الاقتصادية المصرية على تعاونه مع الاحتلال الصهيوني في مجال الاستثمار في شبكات الهاتف، بما يعرّض الأمن القومي المصري للخطر، وعلى الرغم من ذلك يرى في نفسه الأكثر وعيًا بقضية فلسطين والأشد حرصًا على مصلحة الشعب الفلسطيني الذي ينبغي أن يكون مهذبًا ولطيفًا مع الاحتلال الذي يستبيحه في بيته ومسجده وكنيسته ويستحل أرضه ودمه.
الأكثر إثارة للسخرية والأسى على اعوجاج الفكر والضمير هي البيانات الصادرة عن الأنظمة الحاكمة في تركيا ومصر والإمارات والأردن تعليقًا على العمليات الباسلة للمقاومين الفلسطينيين في القدس المحتلة وأسفرت عن وقوع قتلى في صفوف المستعمرين، والتي جاءت ردًا على استباحة الفلسطينيين في بيوتهم بمدينة جنين المحتلة، وسط صمت إقليمي ودولي متواطئ مع الجريمة الصهيونية.
ولا يقلّ إثارة للسخرية والازدراء، كذلك، أن تتوجّه سهام النقد من رافضي هذه البيانات المعبّرة عن حالة تعهر دبلوماسي رسمي، إلى بيانٍ دون غيره، وإلى دولةٍ من هذه الدول دون غيرها، تبعًا للموقف الشخصي من كل واحدة منها، بحيث يغضّ بعضهم الطرف عن بيان أنقرة ويصبّ غضبه على بيانات القاهرة وأبو ظبي وعمان، أو العكس.
في ذلك، وعلى الرغم من اتفاق البيانات الأربعة في مساواة دم الشهيد الفلسطيني المقاوم لتحرير أرضه بدم المستعمر الصهيوني الذي يحتلّ هذه الأرض ولا يعترف بحق أصحابها الأصليين في الحياة عليها، فإن البيان الصادر عن الخارجية التركية فاق الكل في الإساءة إلى تجليات البطولة الفلسطينية، حين استخدم في وصفها كلمات وعبارات مثل "ندين الهجوم الإرهابي على كنيسٍ في القدس الذي وقع مساء 27 يناير (كانون الثاني الجاري)، وأسفر عن مقتل أشخاصٍ عديدين". ليست هذه الصياغة التركية فقط مهينة ومسيئة لمشاعر الفلسطينيين وكل من يؤمن بحقهم في تحرير أراضيهم، وإنما هي كذلك كاذبة لأن البطل الفلسطيني الشهيد خيري علقم لم يستهدف كنيسًا يهوديًا، بل اشتبك مع مجموعة من المستعمرين في طريق عام.
جاء بيان خارجية القاهرة أخفّ حدة في الإساءة لمبدأ الحق في المقاومة، إذ لم يصف العملية البطولية بأنها "هجوم إرهابي"، مكتفيًا بتعبير القاهرة عن "رفضها التام واستنكارها الشديد للهجوم الذي شهدته القدس الشرقية يوم الجمعة 27 يناير، والذي أودى بحياة سبعة أشخاص وأوقع عددا من الإصابات، مؤكدةً إدانتها لكافة العمليات التي تستهدف المدنيين". وتجد الموقف ذاته في بيان الخارجية الأردنية الذي يبكي المحتلين الصهاينة باعتبارهم "المدنيين في القدس الشرقية"، وذلك هو منتهى التناقض مع الخطاب الأردني الرسمي الذي يتعاطى مع القدس الشرقية بوصفها عاصمة الشعب الفلسطيني، بل ويتولّى الوصاية على المقدسات فيها بهذه الصفة، وبالتالي كل وجود صهيوني فيها هو نشاط احتلالي استعماري بالقوة، فأين المدنيون هنا؟
أما اللغة التي استخدمتها أبو ظبي في الإدانة والتنديد فهي ليست غريبة عنها، ولا ينبغي أن تفاجئ أحدًا، حين تصف البطولات الفلسطينية بالأعمال الإجرامية، وتذرف الدموع على القتلى من المحتلين، فالثابت أن أبو ظبي لم تعد تدّعي قربًا أو وصلًا مع فلسطين منذ قرّرت أن تتفوّق على الجميع في التطبيع مع المحتل بل والتحالف معه.
هذه الوقاحات التي تأتي على شكل بيانات رسمية وإطلالات ساذجة من نوافذ "السوشيال ميديا" لن تتوقف، لأن هناك وعيًا بطوليًا فلسطينيًا ينمو ويتطور ويقدم لنا كل يوم أبطالًا يمنحوننا انتصارات حلوة.. بطعم العلقم.