المُتفَق عليه من الأكاذيب في مصر
ليس ثمّة إنسانٌ عاقلٌ يتمنّى أن يبقى واقفًا عند جراحٍ مضت، حتى وإن كانت آثارها لا تزال ممتدّة، وليس إنسانًا من الأساس من يسخر من الذين أصابهم الجرح وطاولتهم تبعاته. وعلى هذا الأساس، لا يمكن بحال من الأحوال اعتبار الرجوع إلى الوراء مسافة عشر سنوات نوعًا من نكء جراح صيف 2013، ذلك الجرح الغائر الممتد منذ 30 يونيو/ حزيران.
المسألة ببساطة أن الذين أثخنوا الناس بالجراح احتشدوا بترسانةٍ من الأكاذيب هذا العام يقصفون بها ذاكرة الناس المنهكة، ويكوون ظهورهم بكلام عارٍ من كل صحّة وكل منطق عن مآلات ما جرى، ويكتبون على مدخل الجحيم الذي يعيشه الناس يوميًا: هذه هي الجنّة ولا تصدّقوا ما ترونه بالعين وما تدركونه بالحواس وما تعتقدونه بالعقل.
ينطلق هؤلاء الذين يسيّرون كل الجيوش الإعلامية والدعائية الكاذبة من مقولة نابليون بونابرت "التاريخ هو ما تم الاتفاق عليه من أكاذيب". وها هم قد استعدّوا مبكّرًا بكمّ هائلٍ من الأكاذيب، مختلفة الأنواع والأحجام، لكنها تريد أن تقول شيئًا واحدًا: صدّقونا ولا تصدّقوا أنفسكم، فنحن أعلمُ بكم من أنفسكم، هذا الذي تروْنه فقرًا هو الثراء، وما تتصوّرونه قهرًا هو أزهى عصور الحرية الفردية والجمعية، وما تحسّونه تراجعًا وتقزّمًا هو الريادة.
باختصار، ما اكتشفتم أنه انقلاب على ثورتكم هو الثورة، أما ثورتكم في 2011 فهي المؤامرة والوهم.
الحاصل أنهم هم من يضطرّون الناس للرجوع إلى الحدث كما وقع، وليس كما تمّت صياغته بعد عشر سنوات، ومحاولة إقناع الناس بأن هذا هو التاريخ الحقيقي. ومن الناحية الأخرى، بات إسرافهم في تعبئة الصفحات والشاشات بكمّيات أكبر من الروايات الكاذبة دليلًا على الشعور بالخواء، وبأن الوعي العام قد تحرّر من أسر الأوهام التي جرى ضخّها عشر سنوات.
وبما أنهم يمتلكون مئات المنابر الناطقة بالأكاذيب، إلى جانب المنابر المتواطئة حديثًا بالسكوت والخرس عن تناول هذه الأكاذيب، فمن المهم هنا التذكير بشهادتين مهمّتين عما جرى، تركهما اثنان من أنبل مفكري مصر ومثقفيها وأعظمهم، قبل أن يرحلا عن عالمنا.
الأولى للمحامي والحقوقي اليساري الراحل أحمد سيف الإسلام حمد، الذي سئل بعد ستة شهور من الكارثة: بماذا تصف 30 يونيو؟
ردّ سيف: أصفه كما وصفته أول مرّة: انقلاب عسكري .. أنا عمري ما وصفته إنه ثورة يعني ولا عمري مضيت على استمارة تمرّد ووصفي له زي ما هو ما اتغيّرش، بل بالعكس الأحداث بثبت لي أنه تم استغلال الجمهور لاستكمال المشهد".
سؤال آخر طرحه عليه مراسل موقع مصر العربية: في علم التاريخ، ماذا سيكتب التاريخ عن هذه المرحلة، وماذا سيكتب عن الفريق عبد الفتاح السيسي؟
يجيب سيف، بوضوح كامل: إنه مجرم حربٍ ارتكب جرائم ضد الإنسانية هو وحازم الببلاوي وعدلي منصور الثلاثي ارتكبت باسمه وبعلمه جرائم ضد الإنسانية.
الشهادة الثانية للمؤرّخ والفقيه الدستوري والمثقف الوطني الراحل المستشار طارق البشري الذي كان متهمًا من بعض القوى الثورية في 2011 بالتواطؤ مع المجلس العسكري، إذ كان رئيسًا للجنة التي وضعت تعديلات الدستور الذي تم تمريره في استفتاء 19 مارس/ آذار 2011. لكن الرجل في يوليو/ تموز 2013 وحين كان أنفار النخب السياسية والثقافية يتدافعون من أجل الاقتراب من السلطة العسكرية، كان يعلنها بثبات ووضوح: هذا انقلابٌ عسكري، ثم شرح بالتفصيل في مقال له في صحيفة "الشروق" بتاريخ 22 يوليو/ تموز 2013 الفرق بين الثورة الشعبية والانقلاب العسكري، وخلص إلى الآتي:
وحدات القوات المسلحة تحرّكت لحماية الدولة وأجهزتها وهيئاتها ونظمها، ثم استغلّ هذا الحراك واستخدم لتحطيم أجهزة الدولة وهيئاتها ونظمها، وانعكس توظيف حركة القوات المسلحة من هدف الحماية والإبقاء إلى هدف الهدم والإنهاء. وأن هؤلاء الذين تحرّكوا بمعدّاتهم، قبل نحو عشرة أيام لم يكونوا يعرفون أي توظيفٍ سياسيٍّ ستستخدم حركتهم فيه من جانب قيادتهم. هذه بالضبط هي أساليب الانقلابات العسكرية، وهي أساليب تجعل من تحرّكوا إنفاذا لقرارات قياداتهم ليسوا مسؤولين عن الأهداف السياسية التي حقّقتها قيادتهم بهذا الحراك.