إيروتيكا التكنولوجيا: المعري ونيتشه أو الروبوتات

31 يوليو 2024
تمثال المعرّي لـ عاصم الباشا في باريس
+ الخط -
اظهر الملخص
- **تأثير التكنولوجيا على الإنسان**: التكنولوجيا الحديثة تجذب الناس وتخفي الواقع، مما يؤدي إلى تلوث عقلي وفقدان الضوء الداخلي، وتحول الإنسان إلى حطام في صحراء التكنولوجيا.

- **الاستعمار الجديد وإلغاء الفردية**: الاستعمار الحديث يغري الناس بالشهوات، مما يدمر حريتهم وكرامتهم، ويحولهم إلى جماعات تفكر بنفس الطريقة، مع دور كبير للإعلام في هذا.

- **البيانات والإبداع**: البيانات تعتمد على النوايا وتدفن الإبداع، الذي يأتي من الثقة والحب، مما يجعل الأفراد قابلين للاستهلاك والاستعباد.

تملك التكنولوجيا إيروتيكا خاصّة بها. فهي تسحرُ الكثيرين الذين لا يستطيعون العيش من دونها. مع ذلك تسبّب العمى. كما أنها تُخفي الواقع وراء شاشة، بالمعنى الحرفي والمجازي. إن التلوّث العقلي الذي يعيشه عالُمنا جدير بالدراسة والبحث؛ فمصاصو الدماء الجُدد يلبسون ثوباً مُغرياً ومضيئاً، ولهم وجوهٌ جميلةٌ ومشعّة. لكن مع ذلك هي وجوه ظاهرية تحجب الوميض الداخلي الموجود في كل إنسان. من دون هذا الضوء الداخلي الخاصّ بنا، نصبح مجرد ركام وحطام ورمل في صحراء التكنولوجية الواسعة، التي تمتد لتغزو الواحة الداخلية الخضراء الموجودة في كلٍّ منا.  

ماضياً، كانت أشكال الاستعمار تُقدّم إلى البشرية بقالبٍ مليء بالطموح والإيمان الديني والرغبة في الثراء. حاضراً، صار الاستعمار أكثر دهاءً. فهو يغرينا بإثارة الشهوة والرغبة، ونحن نسلّم له روحنا مع كل نقرة. ولكن، من أين لروحٍ تُغذيها الخوارزميات أن تشبع وترضى إلا بالانطفاء أو العمى، أو أن تعيش تحت رحمة من يغذيها!

ثمّة محاولة متعمَّدة من قبل هذا الاستعمار الجديد في تدمير حرية الإنسان وكرامته. ويتم ذلك من خلال إضفاء الطابع الإنساني على الآلة، وتسريع الخطى من أجل إضفاء الطابع الآلي على البشر. في ظلّ هذا كلّه، تتعرّض الفردانية الخاصّة والفريدة بكل إنسان للتهديد والخطر، وهذا يقودنا، مع مرور الوقت وترسيخ هذا النموذج، إلى توحيد الفكر على أساس مشروع شمولي. استراتيجية هذا المشروع هي تحويل البشر إلى جماعات لا لزوم لها، لأنهّا تحديداً تفكّر بالطريقة نفسها. وهذا ما يُلغي الفردية والتفكير الفردي.

الأسلحة المستخدمة في هذه المعركة هي أسلحة الإعلام، الذي يهدف إلى جذب الأتباع أو المشترين. يُخبرنا هذا الإعلام أنَّ العالَم - بما في ذلك نحن - هو، جوهرياً، معلوماتٌ وبيانات. وتكرّر وسائل الإعلام الرسالة وتنشرها في جميع أنحاء الكوكب. وهذا ما تحاول شركات التكنولوجيا الكبرى، ومشرّعو الحقيقة وما وراءها، إخبارنا به. وتروّج هذه الإيروتيكا الجديدة من قبل عمالقة التكنولوجيا والحكومات والمؤسّسات العالمية، التي قرّرت تحويل الواقع إلى نظام معلومات "مثير" و"مغر". ولكن من أين جاء هذا كله؟

في عبارة غاليليو "الطبيعة تتحدّث بلغة الرياضيات"، وفي آراء ديكارت حول العلم وضرورة أن يكون رياضيات بالدرجة الأولى مقدمات لبداية العلم الحديث وعبادة البيانات والثورة العلمية التي ستهيمن عليها في ما بعد فيزياء نيوتن.

"البيانات ليست شيئاً محايداً، بل شيء 'مطبوخ'. وهي ليست شيئاً موجوداً في الخارج، بل تعتمد بالدرجة الأولى على النوايا". هذا ما يقوله الفيزيائي الدنماركي نيلز بور، مكتشف مبدأ المكاملة الفيزيائية: "الطبيعة يمكنها أن تتحدّث لغات عديدة، في الواقع، سوف تتحدّث اللغة التي نقترحها عليها". 

صارت طرق الاستعمار أكثر دهاءً: إثارة الشهوات والرغبات

تبعاً لهذا المبدأ، لو سألنا الطبيعة رياضياً، فإنّها ستجيبنا بلغة الرياضيات، ولو سألناها بلغة الشعر، ستردّ شعرياً. ويمكن قول الشيء نفسه عن الكيمياء أو العلوم أو الفن. استطراداً، قد يكون مثيراً للاهتمام طرح السؤال التالي: بأي لغة يتحدّث العرب اليوم مع الطبيعة؟

يكمُن سِحر الطبيعة في أنّها متعدّدة الأوجه. إن ادّعاء وجود لغة خاصّة تقول لنا ماهيّة الطبيعة هي خرافة حديثة. الرياضيات هي الخيار الذي اتخذته الحضارة الغربية وبلغ ذروته الآن مع عبادة البيانات. ولكن للحصول على البيانات نحتاج إلى أداة قياس، وأداة القياس تحتاج إلى نظرية، ولا يمكن أن تكون هناك نظرية من دون خيال إبداعيٍّ عبقري. البيانات هي المُنتج النهائي لهذه العملية برمّتها، والتي لا تكون إلا بالخيال.

ماضياً، كانت الفلسفة وسيلة النضال من أجل الحفاظ على ما هو طبيعي وحقيقي، وكان ذلك يتم استناداً إلى مهارات السرد أو الإقناع أو الجدل. حاضراً، صارت الروبوتات تقوم بهذه المهمة، فالمنطق نفسه حُوّلِ إلى أطنان من البيانات. صارت الكمية هي المهيمنة على النوعية. البيانات تدفن طبيعة الإبداع، لأنَّ طبيعتها تقوم على أنها لا تُدحض، أي إنها مطلقة، تماماً كمثل إله يحظر الاستثناءات ولا يسمح لأولئك الذين لا يتفقون معه بالتنفس. 

الأشخاص الأقل إبداعاً، أعني السياسيين، يستعينون دائماً بخطاب البيانات والأرقام. فهي الخطوة الأولى نحو توحيد الفكر، وجعل الأفراد قابلين للاستهلاك، وللاستعباد، وفي نهاية المطاف تحويلهم إلى شيء من بين الأشياء. 

الشرر الداخلي الموجود في كل إنسان يطفئه الخوف، والجذر الأخضر تقتله الحسابات. لكنَّ الثقة والحب يشعلانه من جديد. وبينما يتحرّك العالَم ضمن ثنائية الأضداد: الخير والشر، البرد والحر، يبقى الحبّ الشيء الوحيد الذي له نقيض له.

لا يمكن أن نعتبر الكره نقيضاً للحبّ، لأننا نستدعي الكره حينما يتعرض شيء نحبّه للهجوم. الحبُّ، إذاً، يخلق الكره، إنّه من مخلوقاته. حين يُقنعنا المتنبي أو نيتشه أو المعري، فإنهم لا يفعلون ذلك بالمعلومات والبيانات والخوارزميات، بل بأسلوبهم الإبداعي الشعري أو المجازي، وبأفكارهم. إبداعهم يلهمنا ويحوّلنا للحظة، كقراء، إلى أفرادٍ مبدعين، لا إلى شيء من الأشياء. ولهذا السبب نحبّهم. 

الكتابة العالية، جوهرياً، هي تلك التي تخلق في القارئ شعور الإبداع، وهي التي تجعله، انطلاقاً من النص، يملك قدرة الخلق، والابتعاد والدحض والرفض أيضاً، قدرة الانفصال، ولو للحظة واحدة، من قبضة اللغة. هذه المسافة هي هواء الإبداع ونَفسه، هي روح الخليفة، حتى في أنظمة التقنية.  

المساهمون