عن نَفْسٍ بشرية: آدميّ يُصبح وحشاً

05 ابريل 2019
ديرهولم: أفضل ممثلة في "ملكة القلوب" (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
لفوز "ملكة القلوب" (2019) لمي الطوخي بجائزتيّ الجمهور، تحديدًا، دلالات وإحالات شديدة الصلة بمفهوم "الانتصار للسينما". جائزتان يحصل الفيلم على إحداهما في الدورة الـ35 (24 يناير/ كانون الثاني ـ 3 فبراير/ شباط 2019) لـ"مهرجان ساندانس السينمائي" (الولايات المتحدة الأميركية)، وعلى الثانية في الدورة الـ42 (25 يناير/ كانون الثاني ـ 4 فبراير/ شباط 2019) لـ"مهرجان غوتنبرغ السينمائي" (السويد)، التي يفوز فيها بجائزتين أخريين أيضًا، في فئتي أفضل فيلم اسكندنافي، وأفضل ممثلة نالتها ترينه ديرهولم. 

يروي فيلم الطوخي (من أب مصري وأم دنماركية) ـ وهو الروائي الطويل الأول لها بعد فيلم قصير بعنوان "طويلة قصّة قصيرة" (2015) ـ حكاية محامية أربعينية، مختصّة بقضايا اغتصاب الأطفال، ومن أشدّ المدافعين عن حقوقهم القانونية. تُقِيم علاقة جنسية مع صبي يكاد يبلغ سنّ الرشد. تتحوّل لاحقًا إلى وحش آدميّ لا يتوانى لحظة عن استخدام قوّته لتدمير الخصم، وتحطيم دفاعاته، مهما كانت هشّة وضعيفة.

إعلان الجمهور مناصرته للنص السينمائي، يأتي في أوجّ تصاعد موجة "أنا أيضًا"، الحركة الاجتماعية الطاغية اليوم في الغرب، التي بفضل قوّتها تدفع مفكرين عديدين إلى إطلاق تسمية "زمن أنا أيضًا" على فترة ظهورها. في مناخ مشحون بالانحياز، تتجرّأ الطوخي على تقديم شخصية "أنثوية" من منظور مختلف عن السائد، انتصارًا منها للإبداع السينمائي، واستنكافًا عن مراضاة الموجة ومجاراتها. لذا، ينظر "الجمهور"، الغربيّ أيضًا، إلى نصّ سينمائيّ شديد التعقيد، وينحاز إلى الجمال والصدق اللذين فيه، وإلى ما يراه أمامه على الشاشة لا خارجها.
من داخله، يبدو نص "ملكة القلوب" (سيناريو مي الطوخي ومارين لويس شين) عصيًا على الحُكم الجازم، ومربكًا لمتلقّيه، ومُضيّعًا عن عمد بوصلة حكمه على المحامية آنّ، وهي مثال الكائن المتناقض، الذي لا يمكن سبر جوّانياته من الخارج. المُحَيِّر في الأمر، حتى للمتعاطف معها، كامنٌ في السؤال التالي: إلى أي جانبٍ فيها سينحاز المرء؟

كلُّ ما في سلوكها يُحيل إلى استحالة فهم سيكولوجية الكائن البشري. مي الطوخي تمادت أكثر باختيارها الاشتغال على شخصية "غير عادية" بالمطلق، لأنها تعرف جيدًا أن الشخصيات العادية المسطّحة لا يمكن تحقيق منجز سينمائي مهم عنها، وتُدرك بالتالي كيفية كتابة شخصيتها الرئيسية بدقّة. فأهمية الأفلام السيكولوجية جيدة الصُنعة تنبثق غالبًا من تعقيد شخصياتها، ومن قدرتها على إثارة الحيرة عند مُشاهديها.

آنّ امرأة مؤمنة بوظيفتها كمدافعة عن حقوق الأطفال. تُغوي، من دون تردّد، ابن زوجها من طليقته، وتنجرف معه في تجربة حسية، تدرك منذ البداية استحالة استمرارها، فتظلّ تردّد أمامه: "أخشى أنّ هذا كلّه سيزول"، فهي مستعدة لتجاوز التجربة بمحمولاتها التراجيدية كلّها، من دون خسارة.




يأخذ "ملكة القوب" وقته كاملاً (128 دقيقة) في بناء شخصياته وحكايته طبقة فوق طبقة، متيحًا لنفسه فرصة البحث عن بواطن ما يدفع محامية، تعيش حياة مترفة مع زوجها الطبيب الناجح مع طفلتيها، إلى خوض مغامرة ربما تخسر بسببها هذا كلّه، من أجل علاقة جسدية عابرة. وعلى طريقة سينمائييّ الشمال الاسكندنافي، تميل الطوخي إلى دراستها، بتأنٍّ كبير وتركيز دقيق على الصورة، والتخلص من كلّ ثرثرة محتملة تُفسد عمق النص. لهذا، يبدو الأخير مُقتصِدًا في الشرح، وممتلئًا بالصُور الناقلة مناخات داخلية، وما يحيطها. كاميرا يسبر سبانينغ (35 مم.) تلتقط كلّ تفاصيل المكان، مُضفيةً عليه أبعادًا نفسية داخلية، تُعزِّز التوتر وتقرّبه من مناخات ألفرد هيتشكوك. في السياق كلّه لـ"ملكة القلوب"، هناك توقّعات بأن شيئًا ما سيحدث. الآن، أو بعد قليل.

الموسيقى (جون إكستران) عامل مُساعد على شحن الجو العام الهادئ. تحالفٌ (بين الموسيقى والنص) يفسِّر إلى حدّ ما الإيغال في عرض تفاصيل العلاقات الجسدية، ومجاورتها بالقدر نفسه من الجمال، مع تفاصيل يومية وانفعالات متفلّتة تكشف الفعل ولا تحكم عليه، فالطوخي لا تُحاكم شخصياتها، خاصة آنّ (ترينه ديرهولم في دور مذهل)، تاركة الأمر للمُشاهدين. كما أنها تتيح لشخصياتها تلك، في الوقت نفسه، فرصة التأثير عليهم، وإرباك أحكامهم على سلوكياتهم ومواقفهم.

في سلوك آنّ انسجام مع شهوانية لا تتعارض بالضرورة مع القناعات الأخلاقية. فيه حاجة إلى تكامل مفقود. شعورها بالوحدة والخواء لا يشبهه إلا خواء المراهق غوستاف (غوستاف ليند)، الهارب من مدرسته في استوكهولم بسبب مشاكل مع والدته. لم يجد مكانًا يلجأ إليه، فيذهب إلى منزل والده في الدنمارك. ذلك البيت الرائع وسط الغابة الموحشة لم يُلبِّ حاجات القاطنين فيه. هو أشبه بفقّاعة جميلة، مُهدّدة بالانفجار في أية لحظة. مع وصول غوستاف، لم تعد تتحمّل آنّ ضغوطها الداخلية. حضوره حافز لتفجير رغبات تخرج في لحظة عن سياقها، كاشفةً تكوين كائن آخر مختلف. امرأة لا تتوانى عن استغلال سلطتها ومهاراتها المهنية لتبرير فعلتها، وكي لا تخسر عائلتها.

الجملة المصاغة بأسلوب شكسبيري، "أحيانا يتساوى ما نفعله مع ما لا ينبغي أن نفعله"، تكرّرها آنّ أمام الصبي الغافل عنها. جملة تحمل معاني فلسفية. يقين المحامية بصحّة سلوكها وامتلاكها الحق المطلق يُجيز لها أفعالها، بما فيها فلتان سيطرتها على تصرّفاتها عند خسارتها قضية ما، تدافع فيها عن حقّ طفلة مغتَصَبة، وفي الوقت نفسه يصاحبها إحساسٌ قوي بالحق، يزيد من قناعتها بامتلاكها قدرة فعل كلّ شيء من دون عواقب. قناعة كلية بامتلاك الحقيقة تساعدها على المضي في أكاذيبها على زوجها، وفي نسج مناخ مُشكِّك بسلوك المراهق المشاكس، ما يستوجب إبعاده عن جنّتها الوهمية. ذلك التسلّط المطلق يُقابله ضعفٌ ذكوري يتمثّل بخنوع الزوج، وانطلاء الأكاذيب عليه، من دون تمحيص كافٍ منه لما ترويه زوجته، وشعور بالظلم واللاعدالة عند المُراهق، الذي يُحسّ بقوّة استلابه وانتهاكه من دون مقاومة. قوة تماسكها تجعل الآخرين عاجزين عن معرفة الحقيقة، وبالتالي ضياعها.

تبدو آنّ أقرب إلى "لايدي ماكبث"، أقلّه في قدراتها على التحايل والمراوغة. لكنها في الحقيقة أقسى منها، ففيها تناقض، وعدم تأنيب ضمير لكلّ ما تنسجه من أوهام حول صحّة أفعالها. انسجامها مع قناعاتها الفكرية، يُقابله دهاء شديد في السيطرة على المتناقضات فيها. شخصية مركّبة، تجمع بين قيم إنسانية وأخرى فيها ملامح توحش مُخيف. بين طيات مشهد ميلودرامي، هناك آخر تراجيدي يتمثّل بموت المراهق متجمِّدًا في العراء. غطّى "انتحاره" المأسوي على الأكاذيب، التي يكاد الآخرون ينسونها أو يتواطأون على نسيانها.

يطوي الموت "السر العائلي"، لكنه بالنسبة إلى مي الطوخي، يظلّ فعلاً مُحفِّزًا على غور طيات هذا الجانب من السلوك البشري. فبقدر ما تبدو الصُوَر الخارجية للناس وديعة، هناك دائمًا أسرار خفية، بحاجة إلى الكشف، لما فيها من تعبيرات عن مناطق مظلمة في السلوك البشري، يتواطأ الجميع غالبًا على السكوت عنها، وتجاهلها.
المساهمون