غرب الصحراء: التاريخ بين الروايات والأساطير

14 فبراير 2016
(موريتانيا: دار جسور، 2015)
+ الخط -
بعد عشرات السنين في أراضي غرب الصحراء، خرج الباحث والأنثروبولوجي الفرنسي، بيير بونت، بأطروحة ضخمة عن سكان هذه المناطق الصحراوية، وقد ركّز بونت أساساً على منطقة "إمارة آدرار"، وتجاوزت الأطروحة الأصلية ألفي صفحة ليستخلص منها فيما بعد كتابه، "إمارة آدرار الموريتانية: الحريم، التنافس، الحماية في مجتمع قبلي صحراوي"، ثم الكتاب الأخير الضخم، الذي يقع في حوالى 915 صفحة، "روايات أصول المجتمعات البيظانية: مساهمة في دراسة ماضي غرب الصحراء". الكتابان ترجمهما الدكتور، محمد بن بوعليبة، واعتنى بتحقيقهما برفقة المؤلف، في حين أضاف بونت إلى الكتاب الأخير دراسات ميدانية، وقد توفّي قبل أن يرى عمله بشكله النهائي يذهب إلى المطابع بوصيّة صريحة بضرورة خروجه باللغتين الفرنسية والعربية.

يمكن معرفة الهمّ الأكاديميّ العام لهذا المفكّر ذي الخلفية الماركسية القويّة، المختلطة بالمنهج البنيوي المستمدّ من كتابات وتحليلات، كلود ليفي شتراوس، في محاولة رصد لتاريخ المنطقة من خلال تتبع المصادر لإعادة إحياء قراءتها وإعطائها الأهمية الضرورية سبيلاً لمعرفة تاريخ دخول الإسلام والتعريب إلى غرب الصحراء بشكل عام، وبمحاولة الشروع في إعادة كتابة تاريخ موريتانيا خاصةً وتصفيته من كثير الشوائب، التي علقت به، سواء من التأريخ المختزل المقدّم من طرف جماعات معيّنة، أو تلك المعلومات المقدّمة من طرف الإداريين الفرنسيين، مثل بولي وبول مارتي، لكون تلك المعلومات قدّمت على شكل روايات شفهية من مخبرين محليين مغرضين سيمثلون رؤية سياسية معينة طالما عارضها بيير بونت.

روايات أم أساطير؟
كما استفاد شتراوس من التحليل البنيوي في كتاباته عن الهنود الحمر، (سكان أميركا الأصليين)، كذلك سيستفيد بونت من نفس المنهج ليعالج به الأساطير وروايات الأصول في غرب الصحراء، تلك الروايات التي ظلت مصنّفة على أساس كونها من الأدب الشفهي غير المحدد، سواء كان حكايات أو أساطير أو ملاحم أو غيرها، رغم أنها تعالج مواضيع خطيرة من قبيل تشكل القبائل في هذه المنطقة، ولغات مجتمعاتها وتياراتها الدينية والمذهبية ودخول الطرق الصوفية. ويمضي بونت أبعد من ذلك ليتساءل عن مدى تاريخانية روايات الأصول هذه، فبعضها ساهم في إضفاء مشروعية الإسلام، بل، وأكثر من ذلك، في تعريب هذه المجتمعات المحلية ذات الأصول الإثنية المختلفة.

يفضّل بيير بونت الانزياح قليلاً عن مفهوم الأسطورة والاتجاه إلى استخدام "روايات الأصول"، وهو باعتقاده لفظ محايد يمنع من إصدار تعميمات وأحكام مسبّقة قبل الدراسة المتمعنة، بالإضافة إلى تفادي ما ترمز إليه الأسطورة في المخيال الجمعي من رموز سلبية، فالرواية تترك احتمال تسرب بعض عناصر الحقيقة التاريخية ما دام الباحث سيسعى إلى تحقيق شروط التحقق منها. ومهما كان من أمر، فإن البناء الذي تعتمد عليه الرواية يتقاطع مع نفس الحقل الدلالي مع مفاهيم أخرى، كالتقاليد والملاحم والأساطير، وإن كان بعضها لا يتعامل مع النصوص فقط، بل يذهب أبعد إلى أشكال التعابير الثقافية الأخرى، كالملبس والتغذية والإشارات وغيرها، لذا يبقى مفهوم روايات الأصول الأقرب إلى الاستخدام لأي أنثروبولوجيا تاريخية تسعى إلى استقصاء تاريخ منطقة غرب الصحراء. فمن أهم سمات هذا المصطلح أنه يتعلق فقط بنصوص تنسب إلى اللغة في شكلها المكتوب أو الشفهي، كما أنها تعتبر دائماً إنشاءات تعتمد على عناصر من النص تقع في الماضي، فلا يهم ولن يغير من الأمر شيئاً كونها حقيقية أو متخيّلة، لن يغيّر ذلك شيئاً من تموقعها داخل البناء العام فهي نصوص قابلة للتغيير وإعادة البناء من أجل أن تعطي صورة أفضل عن الظروف الجديدة، التي تتموضع النصوص داخلها. ويضرب المؤلف مثالاً أعم بكون الدولة الوطنية الحديثة في العالم الإسلامي صاحبتها إعادة صياغة لروايات معيّنة من أجل خلق أدوات تبريرية للهويات الوطنية الجديدة. كما أن هذه الروايات لها هدف هوياتيّ، فهي تفصل وتميّز المجموعات البشرية التي تنقلها، كما أنها تسعى إلى تأسيس شرعية لأسلمة المناطق الشاسعة المعنية بالبحث، وهو أحد أهداف هذا البحث الكبرى، حيث أن روايات الأسلمة متنوعة. غير أن الباحث اضطر إلى دراستها بوصفها كلاًّ واحداً دالاًّ على مستوى جنوب الصحراء بنفس المنهجية، التي درس بها شتراوس أساطير الأميركان الهنود في كليتها.

أية مساهمة؟
قد يبدو السؤال عن الإسهامات الجديدة، التي ستقدمها الدراسة لهذه الروايات، ضرورياً خصوصاً في غياب وثائق محلية مكتوبة عن المنطقة تعود إلى ما قبل القرن السادس عشر، وهو على ما يبدو غياب غير معوّض، والحلّ الذي يجده بونت هو اللجوء إلى الروايات الشفهية، حيث لا يبدو أن التمييز بين الرواية الشفهية والمكتوبة أمر ذو أهميّة لمعرفة نمط تاريخانية هذه النصوص، كما أن التحليل البنيوي، الذي وضع مناهجه لفي شتراوس يقتضي البحث عن مدونات أعم تتناول تقاليد مشتركة، تتقاسمها تلك الجماعات، مما سيؤدي إلى ضم نصوص تتعلق بالبربر وطوارق الصحراء بشكل أخص، ودول السودان وغيرهم إلى البحث الميداني. هذا التحليل سيفتح أبواباً قلما استكشفت من قبل الباحثين الآخرين، أبواباً تتعلق برصد إشكالات تاريخية كمصير المرابطين الصحراويين، الذين لم يكتب تاريخهم إلا بعد مرور أجيال بعدهم، ومصير القبائل الصحراوية وما سيسميه البعض "الفتح العربي"، وتعريب مجتمع البيظان، وكذلك تتبع عصبيات هذه الشعوب القبلية والرعوية. وهنا يعتمد المؤلف كثيراً على ابن خلدون وكيف استطاع الدين الاستفادة من الديناميكية القبلية وعصبيتها، وتحويلها إلى قوة سياسية منظمة قادرة على الاستمرار والانتشار، وبعبارة أخرى قادرة على أن تكون دولة، والكثير من المواضيع الأخرى، التي سيكتفي بونت بوضع إشارات لها ونقاط لعل باحثين وعلماء آخرين يوسعون البحث عنها في مواضيع مستقلة.

وعلى كثرة النصوص التي جمعها بيير بونت، إلا أنه سيركز على نمطين أحدهما سيدرجه تحت خانة "المنظومات المتكاملة"، والآخر سيصنفه تحت خانة "الشذرات". وهذا التمييز يرجع بالأساس إلى طبيعة المجموعات التي تشترك في الروايات والمعاني التي تضفيها هذه الجماعات على تلك الروايات، فالأولى متكاملة لأنها تتخطى حاجز الخاص، فالمنظومات المتعلقة بالإمام الحضرمي، مثلا، والتي ركّز عليها في فصول الكتاب تمدّنا بمعلومات قيّمة عن حركة المرابطين الصحراوية، كما أنها تلقي الضوء على طريقة أسلمة الأجزاء الغربية من موريتانيا الحالية. وتلك المنظومات المتعلقة بـ"الشريف بوبزول" تتسع لتتخطاه إلى مجموعات أخرى في غرب الصحراء، كالطوارق، بالإضافة إلى منظومات أخرى تتعلق بعقبة بن نافع، وهي كلها متمحورة حول شخصية بطولية، مما يجعلها تقترب كثيراً من المجال الوظيفي الدلالي للأسطورة.

ولكن المسألة تتعقد أكثر عندما تأخذ شكل شذرات، فالأخيرة تعتمد على روايات أقصر وأكثر "محليّة"، لكنها قادرة على إبراز التحولات الجينالوجية وإعادة تشكل القبائل. ينطبق الأمر هنا بالتحديد على مسألة الزواجات من الجد "العربي" الشريفي غالباً. في المقابل، فإن هذه الشذرات تُصعّب عمل أي باحث، حيث يجب عليه أن يعيد بناءها بشكل منسجم ومتماسك معتمداً على كمية المعطيات والمعلومات، التي جمعها في أثناء دراسته، وعلى المنهج المقارن التجريبي، وهنا يخرج بونت بملاحظة دقيقة حيث أن هذه النصوص والشذرات لم تنشأ مرة واحدة، بل تمت صياغتها في فترات متباعدة. كما أن هناك تباعداً بين زمن الأصول الواقعي، وزمن صياغة روايات عن تلك الأصول، وهذا ما سيفتح الباب بشكل كبير أمام التأويل.

يبقى السؤال مطروحا حول المساهمة الحقيقية، التي قدمتها هذه الدراسة عن المجتمعات البيظانية في غرب الصحراء، ويمكن القول إن المساهمة الأكبر تمثلت في إرساء قواعد جديدة تم من خلالها تحديد الفترات الزمنية، التي عاشتها هذه المجتمعات القبلية، هذا الزمن الماضي الذيّ تخللته فترات اتصال وانقطاع مما جعل النمط التاريخي، الذي تخضع له هذه الروايات، لا يخضع للمنهج التأريخي الذي يتسم بقابلية إضفاء علاقات سببية زمانية بين الوقائع التاريخية المختلفة، وهو أمر جعل الكثير من الباحثين يهربون من موضوع دراسة روايات الأصول. ويمكن القول إن تحديد مراحل الاستمرار الزماني في هذه الروايات، والتي أرجعها الباحث إلى المرابطين، وخصوصاً بعد واقعة مقتل أبي بكر بن عمر في أثناء سعيه إلى أسلمة البلاد، كما أرجعها إلى محاولات تشكل دولة، وكذا تبيان قطيعات تعود إلى ما أسماها بونت بالقرون الظلامية من تاريخ الصحراء، أو إلى فترة الاضطرابات العميقة التي سببها "الغزو العربي" للمنطقة، وتواجد قبائل عرب المعقل حسان في غرب الصحراء والتأثير المتبادل مع المجتمعات المحلية، خلال الفترة الممتدة بعد القرن الحادي عشر حتى الخمسة قرون الأخيرة حين تشكّل خلالها مجتمع البيظان بملامحه الحالية. ولكن ذلك "الغزو" أو "الفتح العربي" لم يكن مترتباً عليه دخول المنطقة في الإسلام، فحسب ما توصل إليه بونت وغيره من الباحثين، فإن المنطقة كانت قد دخلت الإسلام قبل ذلك التاريخ. ما حدث إذن كان إعادة أسلمة تلك المجتمعات بإسلام مرابطيّ سنيّ، ويمكن اعتبار تلك النتائج من أهم الإسهامات، التي قدّمتها الدراسة.

رغم ذلك لا يمكن اعتبار الدراسة مساهمة في إعادة تأسيس تاريخ شعوب غرب الصحراء، حتى ولو كان هذا التاريخ ما زال بحاجة إلى الكتابة وإعادة التنقيح والبحث، ففي النهاية لا يتعدى المكان الجغرافي الخاضع للدراسة، أي الشمال الموريتاني، وخصوصاً منطقة آدرار.

لكن مع ذلك يمكن اعتبارها من أهم الكتب العلميّة الجادة، التي نشرت حول المنطقة وحول شعوبها الساكنة في الصحراء، فبالإضافة إلى غزارة المعلومات وكثافتها ونضج التحليل، يمكن اعتبار أهم إنجاز لها أنها قدّمت منهجاً يعتبر من أنسب المناهج لدراسة هذا النوع من الروايات، على الرغم مما يطرحه من إشكاليات مريبة، إشكاليات تتعلق بنمط تاريخانية تلك الروايات، وكذلك بوظيفة الرموز فيها وزمانيتها. فقد كان لديها القدرة على الجمع بين النمط "العجائبي" و"الواقعي"، مما يبقي المنهج التحليلي البنيوي كأهم منهج لدراستها رغم الإشكاليات، التي يثيرها حول التمييز بين الأصول والأساطير، تمييز سيصرّ الكاتب على أنه وجيه وفي مكانه تماماً في ما يتعلق بهذه الدراسة.

(كاتب موريتاني)


المساهمون