زيف المنطقة الآمنة

17 يوليو 2024
رسم للفنان عماد حجاج
+ الخط -
اظهر الملخص
- في ظل الحرب، تعيش العائلة تحت القصف في غرفة واحدة، تتشارك الضحك والخوف، بينما يحاول الكاتب حماية الأطفال من الواقع المرير.
- الاحتلال يستغل خوف الناس، فيبث أوامر للنزوح إلى "المنطقة الآمنة"، مما يضع العائلة في حالة حيرة وقلق حتى يجدون سيارة إسعاف تقلهم.
- بعد عشرة أيام من النزوح، تعود العائلة لتواجه مجاعة واقتحامات، ويعبر الكاتب عن حزنه لتدمير المسجد العمري الكبير، مشبهاً الوضع بالنكبة.

الجمعة، الرابع عشر من تشرين الأول/ أكتوبر، لا أعرفُ كيف تتغيّر معطيات الوقت في الحروب، ولا أعرف كيف تصيرُ كل ثانية نعيشها تحت الصواريخ دهراً كاملاً لا ينتهي، ولا أعرف كيف أصير هرِماً كلما صرختْ أختي الصغيرة بملء خوفها حين يباغتنا انفجار قريب.

لا أعرف كيف مضى هذا الأسبوع.

لو أننا لا نحب الليل، لا نحبُ نجومه وسهره، والعشقَ فيه والأغنيات، لو أننا لم نكن نحبه، لما تجمّعنا مع العائلة في غرفةٍ واحدة، نضحك، نخاف، نقلق، نبكي، وننتظر موتاً صعباً تحت سقفٍ يضمّنا، ونحلم بأن نموت معاً.

حين تبدأ الأحزمة النارية في دكّ قلوبنا، يتوقف الوقت برهة، نكتم أنفاسَنا، ونفتش عن ذرات الهواء المخنوقة؛ لنشهقها، فنزفر بعدها أعمارَنا.

أريدُ للطفلة ألا تعرف سوى أحزمة الورد التي تطوّق الجميلات، وتعرف أن النار بدعة.

أريدُ للطفل الذي غرق في صدر أمه، ألّا تفزعه الصواريخ؛ ليصيرَ عاشقاً يجيد العناق.

وأريد أن أتوقف عن تخيّل عظامنا حين تباغتها الصواريخ التي نسفت أحياءً كاملة.

نحن الذين من فرط سذاجتنا كنا نشعر بحرارة الأرقام الزوجية وألفتها، لم نكن نستحق كل هذه الوحدة

وأريدُ للفلسطيني أن يعيش، فليس ثمة موت يغيظ العدى، كل روح منا متراسٌ في حرب الوجود، والخسارات كبيرة. طوال هذه المدة، كنتُ أحاول مع الصغار، فقرأت لابنة عمي قصصاً أهدتني إياها مايا أبو الحيّات حين التقيتها في رام الله، لم أكن أعرف أنّ قصصها ستكون حياةً أخرى تحت الموت.

ليلة صعبة أخرى تمرّ، أستيقظ باكراً، أفتش عني، أتحسّس أعضائي كلها، ما زلتُ حياً، أو ربما ظاهراً قد بدا ذلك، أسمع جلبة في الخارج، وأسمع صوت أمي تسأل: ملناش حد في الجنوب، وين نروح؟
_إيش في؟
_اسمع

 استطاع جيش الاحتلال ضرب الجبهة الداخلية المعدومة في الأصل واستغلال خوفنا وتوقنا للأمان، حين اخترق أثير الإذاعات المحلية في غزة، وبدأ يبث من خلالها أوامر غريبة للنزوح إلى "المنطقة الآمنة" جنوبيّ وادي قطاع غزة. أطلُّ على حارتنا، فأجد أهل الحارة يدورون في دوائر الحديث والحيرة، "وين نروح؟" لو أنّني لا أعرف تاريخ اليوم، لقلتُ إنها النكبة، هي ذاتها في تفاصيلها، لكن كيف للقاتل أن يحدد مناطق آمنة؟ 

يقع بيتنا على مقربة من شارع صلاح الدين، الشارع الذي يربط شمال القطاع بجنوبه، حيث كان يخرج النازحون نحو الجنوب، نحوَ وُجهات لا يعرفونها، وتيه لا يعرفون نهايته. الأعداد الكبيرة من النازحين كانت تشعرنا بخطورة الأمر، كما لو أننا سنبقى وحدنا في المدينة، فزاد القلق والتوتر.

"نضل؟ لأ نطلع، وين نروح؟ المهم ما نخسر حدا، إذا طلعنا مش هنرجع، هيودونا على سينا، المهم ما نشرب حسرة حد، يومين وبنرجع".

كل تلك الحوارات كانت تدور في صالة البيت، الأمهات يبكين، والأطفال أيضاً، والكل غارق في حيرته. وأنا، كنت أكثرهم حيرة، ويقتلني سؤال النكبة والهجرة، تقتلني السردية الفلسطينية التي تكرر نفسها بعد أكثر من خمسة وسبعين عاماً من النكبة، ذات العدو، وذات النزوح، حتى جملة "يومين وبنرجع" التي قالتها أمي لأبي في محاولة منها لإقناعه، كانت كفيلةً بأن تذكّرني بآمال الأجداد التي لم تتحقق.

لا تسألني عن الرقم الذي تبدأ عنده المجزرة، كلُّ نفسِ تموتُ منّا مجزرة

لا شيء يحصل صدفةً تقول أمي، فحين اتصلتْ إحدى قريباتنا تدعونا إلى بيتها في النصيرات، كان حتماً علينا أن نوافق، فقد صار لنا وجهة هناك، وجهة في تيه لا آخر له.

"جهزوا الشنطات"، يقول أبي.

كم كان الفلسطيني وحيداً أمام فكرة البيت وهو يحاول تلخيصَها في حقيبة، ونحن الذين من فرط سذاجتنا كنا نشعر بحرارة الأرقام الزوجية وألفتها، لم نكن نستحق كل هذه الوحدة. ماذا سأضع في حقيبتي، وماذا سأحملُ من ذكريات، لم يكن لدينا وقتٌ لنجمع ضحكنا، روائحنا، فالشمس على وشك المغيب، والليل يكشّر عن ناره.

أخرجتُ سريعاً حقيبتين، حقيبةً لبعض الملابس، وحقيبةً أخرى للكتب والإهداءات، وبعض التذكارات، كل مرةٍ نحملُ أكثرَ الأشياء أهميةً، هكذا كنا نعتقد، وننسى أرواحنا في البيت. جهزتهما سريعاً، واختليتُ بالبيت؛ لأودعه.

بيوتنا أوطانٌ صغيرة، فيها مشينا خطونا الأول، وتهجينا مفردات البلاد، كانت كلها بلاد، تحوي ضعفنا وبكاءنا، أسرارنا وأحلامنا. مشيتُ إلى غرفتي، مددت نفسي لآخر مرة على سريري، غرقتُ في وسادتي، أنا لا يزورني النوم إلا على سريري، فكيف سأنام على غيره؟ سريعاً تجهزت، كانت كل العائلة تجهز نفسها للتيه، أبي يحاول الاتصال بأي سيارة دون جدوى، أعداد النازحين كبيرة حد أننا لم نجد سيارةً واحدة؛ لتحملنا هناك. وبعد أن نجحنا في توفير سيارة نقل تابعة للبلدية يقودها أحد الأقارب، نجحنا في تأمين نصف العائلة. وبقينا نحن النصف الآخر ننتظر.

الشمس على وشك السقوط، ونحن لم نجدْ أي سيارة تحملنا إلى هناك بعد، وبعد انقطاع الأمل، فجأة يطلّ علينا أحد أصدقاء العائلة في سيارة إسعاف، يعرض علينا الركوب معه. كانت سيارة الإسعاف صغيرة جداً لأن تتسعَ لنا نحن الثمانية، بالإضافة إلى أربعة من عائلة أخرى. حالة تشبه دخول علبة سردين.

كنت صامتاً، أحاول فهمَ ما يجري، كيف غادرت البيت بهذه السهولة؟ كيف تركت أحلامي الخضراء تحت وسادتي ورحلت؟ لو أنني أعرفُ أن آخر مرةٍ نمت فيها على سريري ستكون الأخيرة، لما نمت، لبقيتُ أتأمل تفاصيل البيت، وذكرياتي، لو أنني أعرف أن آخر مرة نمت فيها على سريري سأستيقظ بعدها على جنون الحرب، لما نمت، لكنني كنت أتجهز لمحاضرة جامعية مهمة عند الثامنة صباحاً.

في طريق صلاح الدين، كنت أرصدُ النازحين، والدمار الهائل الذي خلفته طائرات الاحتلال، وسمعنا صدفة أن الاحتلال استهدف سيارات النازحين على طريق صلاح الدين، فلم نصدق، ربما كنا نريد أن نكذب نفسنا، لنصدق كذبة "الأمان" حتى وصلنا إلى طريق وادي غزة. 

وأنتَ تنعس في السيارة على حافة النافذة، يلاطفك الهواء وتذوب في حضرة المشهد، وأنت تنتقل بين مشاهد الشوارع والأشجار والبنايات الملوّنة، تذكّر أنني شاهدت من نافذة سيارة الإسعاف أجساداً محروقة في السيارات، منتوفة أجسادها، مشتعلين في سياراتهم كما لو أنّ أحلامهم مادة قابلة للاشتعال، وهم يطاردون النجاة، يطاردون وهم الأمانِ الذي شكّله الاحتلال.

كانت تقول أمي: "فش إشي بصير صدفة"، فذهابنا إلى "المنطقة الآمنة" بسيارة إسعاف، والأجساد الممزقة التي شاهدناها تحترق في طريق صلاح الدين، ونحن ذاهبون إلى "منطقة آمنة" حددها احتلالٌ يشرب نخبَ دمائنا منذ خمسة وسبعين عاماً، لم تكن صدفةً أيضاً. ثلاث مرات نجوتُ فيها من الموتِ، مرتين وأنا في السوق، ومرةً حين استهدف الاحتلال مخبزاً هناك، حينها كنا نسمع صوت العاملين في المخبز وهم عالقون في النار، لا أحد يستطيع الوصول إليهم، وهم يصرخون: يا عفو الله، الحقونا الحقونا. غابَ صوتُهم، ولم ينقذهم أحد.

عدنا إلى البيت بعد عشرة أيام، قبل أن يفصل الاحتلال شمال القطاع عن جنوبه؛ لأعيش بعدها أسوأ ما يمكن أن يعيشه إنسان، من مجاعةٍ، واقتحامات برية مستمرة. خلال ذلك شاهدت كيف تدمر المدينة وكيف يستهدف تاريخها.

تكبرُ المدنُ على مهلِ عصفورٍ يتعلمُ الطيران، تحمل تاريخها فوق جناح، وحاضرها فوق آخر؛ لتطير بعدها في المستحيلات. تكبرُ المدنُ على مهل صخرةٍ تحفظُ عطر البلاد، وأهلها، تحاول حفظها، فيتشقق الصخرُ زرعاً. تلكَ مدنٌ فتيةٌ، أعمارُها الدهرُ كلّه، تركض نحو ذواتها ركضةَ غزال لا يتوقف، يجمع هواء البرية كلها، ويزفرُ أخيراً ما يريد.

كنتُ محظوظاً جداً بوجود بيت جدي في البلدة القديمة في غزة، ما جعلني قريباً جداً على أهم العناصر الأثرية والتاريخية هناك، فنشأت بين المسجد العمري الكبير، وقصر الباشا، وسوق الذهب، والأسبطة والبيوت القديمة، حالةٌ تشبه أن تبدأ فلسطينيتك من أوّل التاريخ والنشأة، وحظ صار الآن سكيناً يحفرُ فيّ الحنين باسم الذكريات. كان المسجد العمري الكبير رئتنا التي نتنفس من خلالها هواء بلادنا المحتل، نشعرُ تحت أقواسه بريح القدس والأقصى. لدينا جيلٌ كاملٌ لم يزر القدس مرةً في حياته، وكان يراها كل يوم في باحات المسجد العمري وأقواسه وحجارته القديمة.

كنت محظوظاً يوم زرتُ القدسَ في أيلول/ سبتمبر 2023، قبل الحرب بأيام، مشيتُ وحيداً في أزقتها ووصلتُ إلى قبّتها المذهبة، كان لا شيء يضاهي جمالها، وما هوّن عليّ قليلاً مغادرتها وجود مسجدٍ كالعمري في غزة، لكن الحسرةَ كانت كبيرة حين هدم الاحتلال أجزاءً كبيرةً من المسجد.

فمن أين بدأت الحكاية؟

تبدأ الحكاية في الخامس عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر 2023. كانت الساعة الآن الحادية عشر ليلاً، الكلّ نائم، أو ربما الكل يدّعي ذلك، كلٌّ خلدَ إلى رأسه بعد جولةٍ جديدةٍ من الصراخ، الكل يخلد إلى نومه هنا حين يفقد قدرته على الخوف. أصوات الانفجارات لا تتوقف، ولا أقوى على استيعاب أن مع كلّ انفجارٍ يسقطُ بيتٌ على أهله، وتموتُ فكرةٌ كانت ستغير العالم، وننجو. 

كم مليء هو الإنسانُ بالأفكارِ والمشاعر والحنين! لا تسألني عن الرقم الذي تبدأ عنده المجزرة، كلُّ نفسِ تموتُ منّا مجزرة.  أصوات القذائف تعلو وتقترب، أنظر إلى السقف، أتخيله وهو يسقط على  صدري، يخنقني. أعاتبكَ يا الله، لماذا خلقتَ الغزيَّ بأقدار الموت هذه، ولم تعطه قدرةً ليجمعَ الهواءَ وينجو بكلّ ما فيه؟ لماذا قدّرت لي أن أقف على الجبل قبل نصفِ شهرٍ من الآن لأول مرة، وتغمرني بهواء رام الله القادم من أمواج الغرب؟ لماذا تتركني بعدها لقدر الاختناق؟ 

كانت أمي تسمع الراديو حينها، تنتظر انتهاءَ هذا الجنون، أذكر أنها أغلقته بحنق حين سمعت أحدهم يقول بعريية فظة: نحيّي شعبَنا الصامد. كانت الساعة الحادية عشرة ليلاً، الكل غارقٌ في احتمالات موتٍ صعب، حين رنّ هاتفٌ فجأة.

رقم خاص يرنّ على هاتف أمي، والكل يعرف أنّ خلف تلك الأرقام وبالاً ما. هرعت أمي إلى الصالة، التي أنام بها مع أبي وأخوتي وأعمامي، تزجُّ الهاتفَ في حضن أبي:
_رقم خاص
_ رقم خاص؟ يا ساتر.

الكل خرج من غرفه حينها، وأكد فكرة اللانوم. حمل أبي الهاتفَ بتثاقلٍ كبير، وأنا أنظر إلى السقف الذي لم أنتهِ من حديثي معه. 
_ألو
_جوز نجوى معي؟ 

كان سهلاً وقتها أن ترى حدقات أمي تتسع خوفاً: نجوى؟ 
_صحيح
_أنت بتعرف إنه (جيش الدفاع) صار قريب عليكم، عشان هيك معاكو 24 ساعة تطلعوا من أماكنكم نحو "المنطقة الآمنة" جنوب وادي غزة؛ لإنه حنكسّر منطقتكم تكسير، تصبح على خير. 

كأن شيئاً لم يكن، ضجيج العائلة الذي توقف حين أوعز أبي إلى الجميع بالحديث في الأمر صباحاً، لم أكن أسمعه، كان لا يزال صوت المجرم في أذني يحفر فيّ الأسئلة.

"حنكسر منطقتكم تكسير، تصبح على خير". 

تصبح على خير؟

اتصال الاحتلال يومها، لا يبرر له فعلته أبداً، وذكرها في القصة، لا يبرئ الاحتلال. كيف استطاع أن يجمع "حنكسر منطقتكم تكسير" و"تصبح على خير" في جملة واحدة؟ كيفَ؟ وهو الذي دمر حارتنا، وقتل الأصدقاء. رغم أنّ أعمامي نزحوا إلى الجنوب مرة أخرى، لم ننزح، لن نعيشَ الكذبة مرتين. نزحتُ إلى بيت جدي في البلدة القديمة، وكان هذا النزوح الثاني.

حين باغت الاحتلال البلدة القديمة، كانت ليلة الاقتحام مليئة بالنار والقذائف، استيقظنا يومها بعد منتصف الليل ولم ننم، لم يكن لديهم أية أهدافٍ سوى التاريخ، لم يكن لديهم أية أهداف سوى وجودنا الأبدي على هذه الأرض. فاضطررنا إلى النزوح إلى منطقة غرب غزة.

حين قالوا إن الاحتلال دمر المسجد العمري، لم أصدق، كأن شيئاً مني قد سقط، شيئاً من الذاكرة والطفولة، من أنا ليغادرني التاريخ دفعةً واحدة هكذا؟ ومهما أعادوا بناءَ الأماكن، فمن يعيد عطر القدامى في الحجارة؟ مررتُ الأسبوع الماضي على البلدة القديمة، والحقيقة أنني كلما مررت، اكتشفت دماراً جديداً، ووجعاً أشد. فحين تتبعتُ خطو الدبابة، عرفتُ أن الجيشَ تمركز في قصر الباشا، ذات المكان الذي باتَ فيه نابليون بونابرت وجنوده بعد هزيمته في عكا.

كان التاريخُ الذي أراد الاحتلال طمسَه يقول لنا شيئاً.

* شاعر من غزّة

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون