يحتفل التونسيون، اليوم الثلاثاء، في 14 يناير/كانون الثاني، بمرور تسع سنوات من عمر ثورتهم التي أطاحت بنظام زين العابدين بن علي، وذلك بعدما احتفلوا بها في 17 ديسمبر/كانون الأول الماضي، في مدينة سيدي بوزيد، وسط البلاد. ودرج التونسيون كلّ عام منذ اندلاع ثورتهم، على الاحتفال بها مرتين، في ذكرى انطلاق شرارتها في سيدي بوزيد، حين أحرق الشاب محمد بوعزيزي في مثل هذا اليوم من العام 2010 نفسه احتجاجاً على وضعه المعيشي، وحين سقوط النظام في العاصمة. هذا الأمر، الذي تحول إلى عادة، أعاد الرئيس التونسي الجديد، قيس سعيّد، الجدل حوله أخيراً، عندما اعتبر في خطاب له من سيدي بوزيد، الشهر الماضي، أن تاريخ الثورة الحقيقي هو 17 ديسمبر/كانون الأول، ويجب أن يكون عيداً وطنياً، وأن تاريخ 14 يناير/كانون الثاني، هو تاريخ محاولة التفاف على الثورة.
وبعيداً عن هذا الجدل، يتفق سياسيون ومحللون في تونس على أن ثورتها نجحت في نقل البلاد إلى المسار الديمقراطي، على الرغم من المطبات والإخفاقات، وثقل الأزمتين الاجتماعية والاقتصادية، الذي لا يزال راسخاً، وهو ما تبدى خصوصاً مع تخطي مرحلة خطر كانت تلوح خلال الانتخابات التشريعية والرئاسية التي جرت العام الماضي، والتي اجتازها التونسيون بنجاح.
بين تاريخين
وتوضيحاً لجدل التاريخ، رأى القيادي البارز في "التيار الديمقراطي"، غازي الشواشي، أن تاريخ 14 يناير 2011، لم يكن قطعاً يوم التفاف على مسار الثورة، وإنما هو التاريخ الذي نجحت فيه بإزاحة رأس النظام وحاشيته، وإعادة الشأن العام إلى التونسيين جميعاً، يتداولون فيه ويساهمون في صناعة السياسات والتأثير. وفي تصريحٍ لـ"العربي الجديد"، اعتبر الشواشي أن الحديث عن الالتفاف، يشير إلى تسلم رئيس وزراء بن علي آنذاك، محمد الغنوشي، مقاليد الرئاسة لفترة قصيرة جداً، ويتناسى أصحاب هذه المقولة أن الثورة كانت حراكاً اجتماعياً عفوياً، من دون قيادة سياسية، لذا كان من الضروري استمرار عجلة البلاد في العمل في ذلك الظرف، فتم آلياً الاعتماد على جزء من المنظومة إلى حين إجراء انتخابات المجلس التأسيسي لاختيار قيادة جديدة، أفرزت صعود قوى كانت في صفّ الثورة، وعانت القمع وناضلت ضد الاستبداد. واعتبر القيادي في "التيار الديمقراطي" أنه على غرار كل الثورات التي شهدت محاولات التفاف وثورات مضادة، من الطبيعي أن تعيش تونس حالة شدّ وجذب خلال هذه المرحلة، لكن الأكيد هو أن الثورة نجحت في تحقيق بعض أهدافها، فحتى بقايا منظومة الاستبداد الرافضة لها وللدستور، حاولت الاستفادة من مكتسباتها، وانخرطت رغماً عن أنفها في مسارها، مشاركةً في الانتخابات ومستفيدة من حرية التعبير ما أدى إلى وصولها إلى البرلمان عبر انتخابات حرة ونزيهة.
في المقابل، اعتبر رئيس مركز الدراسات الاستراتيجي، عدنان منصر، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنه إذا أخذنا الثورة من بدايتها، فإنّ تاريخ 17 ديسمبر هو تاريخ انطلاقها، لأن المسار بدأ حينها، أما 14 يناير فهو الحل الذي تم التوصل إليه، لتحويل الثورة إلى إنجازٍ دستوري، لافتاً إلى أنه "إذا أردنا اختيار تاريخ صادق للثورة التونسية، فالأفضل هو بداياتها، وهذا ما يمنح تقليدياً للثورات".
اقــرأ أيضاً
تقييم المسار
وفي كل عام، يتوقف التونسيون لإحصاء إنجازاتهم وإخفاقاتهم، وتقييم مسارهم، خصوصاً أن شعار ثورتهم، "الشعب يريد"، عاد بقوة خلال الانتخابات الأخيرة، لتعيش البلاد زخماً جديداً أحيا الآمال بعد فترة الخمول التي سبّبها الإخفاقان الاقتصادي والاجتماعي.
ورأى منصر، في هذا الإطار، أن ما حصل في تونس بعد تسعة أعوام من الثورة، لا يبتعد كثيراً عن المسار الطبيعي الذي تتخذه كلّ الشعوب بعد ثوراتها من حيث اختبار عدم الاستقرار السياسي، لأن الصورة لا تكون قد اتضحت كثيراً ما بين إرهاصات الماضي والحاضر، مبيناً أنه مع تردي الوضع الاقتصادي والاجتماعي نتيجة التركة القديمة ومنح الأولوية للجانب السياسي، فبالإمكان القول إن ما حصل في تونس لا يختلف كثيراً عما عاشته الكثير من البلدان التي عرفت ثورات.
وشدد رئيس "مركز الدراسات الاستراتيجي"، على أنّ ما تحقق في تونس خصوصاً، هو تأكيد دورية الانتخابات وترسيخ الاحتكام للقانون والسلطة في التداول السلمي على الحكم، من دون أن تطرأ أي انتكاسة على الممارسة الديمقراطية. ولفت إلى أنه على الرغم من التعثرات والصعوبات، إلا أن هناك حيوية في الساحة السياسية، ما دفع إلى محاولة البحث عن الحلول من داخل النظام الديمقراطي، بهدف تحسين أداء النظام السياسي ومواجهة النقائص التي تنعكس على الناس. ورأى منصر أن بلاده خطت خطوات هامة عبر الانتخابات الأخيرة، وخصوصاً الرئاسية، مع وجود دينامية يجب أن تفضي إلى حلول أكثر وضوحاً ونجاعة، فالمسار لا يزال يخضع إلى إرهاصات وتحولات، ولا يمكن تقييمه قبل مضي فترة أطول، لأن تسع أو 10 سنوات، قد تعطينا فكرة عن توجه المسار، ولكن ليس على المسار ككل.
استحقاقا الانتخابات والحكومة
من جهته، أكد الأمين العام للحزب الجمهوري، عصام الشابي، على حقّ التونسيين في الاحتفال بمرور تسعة أعوام على انتصار ثورتهم وسقوط نظام الاستبداد والظلم، والاحتفال بنظام ديمقراطي يقوم على التداول السلمي للسلطة وصيانة حقوق الشعب وفق دستورٍ نال ثقة المواطنين وإعجاب الجهات المعنية بالدساتير وحقوق الإنسان، لافتاً في حديث لـ"العربي الجديد" إلى أن ما تحقق لا يخلو من صعوبات أنهكت الدولة والمجتمع، ولا تزال تهدد الإنجازات المكتسبة. وفي هذا الإطار، تبرز بحسب رأيه، الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تزداد حدة وتتخذ نسقاً تصاعدياً، إلى جانب تفاقم عجز التوازنات المالية للدولة، وازدياد يأس الشباب ممن لا يجدون أفقاً لتحقيق أحلامهم، ما ينعكس على تطلعات الشباب والشعب بشكل عام إلى التغيير.
ورأى الشابي أن الانتخابات الرئاسية الأخيرة أعادت الأمل للتونسيين بوضع حد لتفاقم البطالة ومقاومة الحيف الاجتماعي، لكن القوى التي أفرزتها الانتخابات (التشريعية) فشلت في تشكيل حكومة قادرة على قيادة البلاد، ما أفضى إلى غياب البوصلة لدى أغلب الكتل النيابية وغياب فكر سياسي يقوم على ضبط الأولويات وتقديم المصلحة العامة على الحزبية. ورفض الشابي أن تؤدي هذه الإشارات السلبية إلى اعتبار أن التغيير يكمن في إعادة خلط الأوراق أو التحالف مع لوبيات الفساد، فمع عودة المبادرة إلى رئيس الجمهورية (في مسألة الحكومة) يجب أن تعود الأطراف الباحثة عن المصلحة العامة إلى الاتفاق على برنامج مرحلي، والعمل على فتح الملفات ذات الأولوية وتشكيل الحكومة. وشدد الأمين العام للحزب الجمهوري، على أن الواجب يدعو الأحزاب التي دافعت عن الديمقراطية وتخليص الدولة من الفساد، إلى التواضع والانطلاق في برنامج وطني ومعالجة القضايا الحقيقية وتحقيق مصالح التونسيين، مؤكداً بقاء الحلم وضرورة الوفاء لدماء الشهداء وجرحى الثورة وعدم إضاعة البوصلة في تشكيل الحكومة، التي يجب أن تكون أقرب إلى أهداف الثورة ووفية إلى تطلعات وآمال التونسيين.
وفي إطار التوافق على تحديد الإنجاز الأهم الذي تحقق حتى الآن في مسار الثورة التونسية، شدد المحلل وأستاذ الفلسفة السياسية قاسم الغربي، في حديث لـ"العربي الجديد"، على أن ترسيخ الديمقراطية هو المكسب الأساسي الذي ربحته البلاد، مقراً بتعثر خطوات أخرى، على غرار استكمال المؤسسات الدستورية.
واعتبر الغربي أن جلسة منح الثقة لحكومة الحبيب الجملي (يوم السبت الماضي)، التي أفضت إلى إسقاطها، هي مؤشر على ديمقراطية الحكم، بصرف النظر عن التحالفات التي صيغت لهذه الغاية. ولفت في هذا السياق، إلى أن جانباً من الديمقراطية مبني على توافقات وتحالفات بين أحزاب سياسية، على اختلافها.
ووفق تقديره، فإن مشهد الأحزاب السياسية وهي تتصارع في ما بينها بأدوات الدستور، وتحت مظلة مؤسساته، لتسقط حكومة بإرادة حرة، يدل على حصر العمل السياسي ضمن هذه الآلية، مع إقصاء الأدوات الخارجة عن المنظومة الديمقراطية، على غرار الانقلابات وممارسة العنف، مذكراً بدوره بوجود أطراف لا تتبنى مقولات الثورة، ولا تعترف بها حتى، أو بدستور العام 2014، إلا أنها انخرطت اليوم في منظومة الحكم والسلطة، وخاضت الانتخابات التعددية التي لم تكن لتحصل لولا الثورة.
اقــرأ أيضاً
وحول مبدأ كسب المشروع الديمقراطي، تبنى القيادي في "التيار الديمقراطي" غازي الشواشي، طرح الغربي نفسه، معتبراً أن من البديهي أن تكون تونس قد نجحت في جانب من الديمقراطية، باستثناء أنها أخفقت في تخطي مرحلة الانتقال الديمقراطي، ومشدداً على أن هذا المسار لم ينته طالما لم ترس المؤسسات الدستورية وضمانات الرقابة والمحاسبة التي نصّ عليها. وبرأيه، فإن الديمقراطية في تونس لا تزال هشة، لأسباب داخلية كالاحتقان الاجتماعي والتهديدات الأمنية التي قد تؤدي إلى ردة أو إلى ديمقراطية "عاقر" لا تصمد كثيراً، إضافة إلى المخاطر الخارجية التي تحدق بالبلاد، والتي قد تعيدها إلى الوراء، إذ تعيش الجزائر على حدودها مخاض الانتقال السياسي بدورها، فيما تشهد ليبيا على الحدود الجنوبية صراعات ومعارك.
على الرغم من ذلك، فإن هشاشة الديمقراطية، بحسب الشواشي، لا تحجب حجم التغيير الذي طرأ في تونس منذ الثورة، مع الحاجة إلى ترسيخ ثقافة التعدد والحرية والديمقراطية، وتوفير مناخ أفضل اجتماعياً واقتصادياً، وإعادة الأمل للتونسيين. أما الطبقة السياسية التي جاءت مع الثورة، فهي مطالبة باستكمال مراحلها، حتى لا يفقد التونسيون إيمانهم بأن الديمقراطية مثمرة. هكذا يمكن الجزم تقريباً، بحسب الشواشي، أن لا رجوع إلى الوراء، وأن لا خوف على مسار الثورة، وذلك بعدما تخطى التونسيون محطة مهمة كانت مبعث قلق، حيث كانت هناك إمكانية لحصول انتكاسة، ألا وهي خلال انتخابات 2019، إلا أن الشعب تخطاها بنجاح، مغلقاً الباب أمام أي احتمال لعودة مرحلة الاستبداد.
مغادرة "السكن في الثورة"
من جهته، يعتبر عالم الاجتماع الدكتور مهدي المبروك، وهو مدير "المركز العربي لدراسة السياسات" في تونس، أن إدراك كيفية التحول من الثورة إلى الانتقال الديمقراطي، وماهية موقع تونس بعد عقد من الزمن تقريباً على اندلاع الثورة، أي تحديد الوجهة التي نقصدها والمسافة التي قطعناها، مسائل مهمة لتحديد المنطقة التي نقف عليها اليوم.
وفي حديث مع "العربي الجديد"، يطرح المبروك، والذي كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والانتقال الديمقراطي، أسئلة حول المسار الذي شهدته تونس إلى اليوم. ويرى أن ما حدث في تونس يمكنه أن يتجاوز كفعل، حدث الثورة وتسميتها كذلك، بحكم ما أفرزته من أحداث متتالية في مناطق أخرى من العالم ولا تزال. ومقترباً من وصف الثورة التونسية بأنها "ثورة نخب"، يدعو المبروك إلى عدم التسليم بالمسميات والأوصاف وطرح الأسئلة الجريئة ومغادرة منطقة "الاطمئنان الفكري".
كما ينبه الباحث السياسي إلى أن الثورات تتحول تدريجياً، وضمن مسارات عديدة وطرق مختلفة، من الثورة إلى التحول الديمقراطي، ومن أحلام الثورة الواسعة إلى ضيق الدولة وعقلانيتها الباردة، محذراً في هذا الإطار من المنحازين عاطفياً وفكرياً الى الثورة، وكأن "السكن في الثورة" يمنحهم شرعية للنقد الأبدي لما يحدث حالياً، وهو ما يحجب تبيان ما يحصل على أرض الواقع، ما قد يوصل إلى نزعة إنكارية.
وفي ردّ على سؤال حول كيفية الخروج من سردية الثورة الآسرة، يدعو المبروك إلى فكّ الارتباط بين الثورة والانتقال الديمقراطي، ومغادرة زمن الثورة المتمدد في خيال البعض باعتباره مهمة ضرورية، مشيراً إلى أن هذه الحركة مهمة، حتى لا نترك هذا الحنين الجارف للثورة يعيدنا إلى زمن ولى، معتبراً أن الوفاء للثورة هو مغادرتها والسكن في زمن التحول الديمقراطي.
وتوضيحاً لجدل التاريخ، رأى القيادي البارز في "التيار الديمقراطي"، غازي الشواشي، أن تاريخ 14 يناير 2011، لم يكن قطعاً يوم التفاف على مسار الثورة، وإنما هو التاريخ الذي نجحت فيه بإزاحة رأس النظام وحاشيته، وإعادة الشأن العام إلى التونسيين جميعاً، يتداولون فيه ويساهمون في صناعة السياسات والتأثير. وفي تصريحٍ لـ"العربي الجديد"، اعتبر الشواشي أن الحديث عن الالتفاف، يشير إلى تسلم رئيس وزراء بن علي آنذاك، محمد الغنوشي، مقاليد الرئاسة لفترة قصيرة جداً، ويتناسى أصحاب هذه المقولة أن الثورة كانت حراكاً اجتماعياً عفوياً، من دون قيادة سياسية، لذا كان من الضروري استمرار عجلة البلاد في العمل في ذلك الظرف، فتم آلياً الاعتماد على جزء من المنظومة إلى حين إجراء انتخابات المجلس التأسيسي لاختيار قيادة جديدة، أفرزت صعود قوى كانت في صفّ الثورة، وعانت القمع وناضلت ضد الاستبداد. واعتبر القيادي في "التيار الديمقراطي" أنه على غرار كل الثورات التي شهدت محاولات التفاف وثورات مضادة، من الطبيعي أن تعيش تونس حالة شدّ وجذب خلال هذه المرحلة، لكن الأكيد هو أن الثورة نجحت في تحقيق بعض أهدافها، فحتى بقايا منظومة الاستبداد الرافضة لها وللدستور، حاولت الاستفادة من مكتسباتها، وانخرطت رغماً عن أنفها في مسارها، مشاركةً في الانتخابات ومستفيدة من حرية التعبير ما أدى إلى وصولها إلى البرلمان عبر انتخابات حرة ونزيهة.
في المقابل، اعتبر رئيس مركز الدراسات الاستراتيجي، عدنان منصر، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنه إذا أخذنا الثورة من بدايتها، فإنّ تاريخ 17 ديسمبر هو تاريخ انطلاقها، لأن المسار بدأ حينها، أما 14 يناير فهو الحل الذي تم التوصل إليه، لتحويل الثورة إلى إنجازٍ دستوري، لافتاً إلى أنه "إذا أردنا اختيار تاريخ صادق للثورة التونسية، فالأفضل هو بداياتها، وهذا ما يمنح تقليدياً للثورات".
تقييم المسار
ورأى منصر، في هذا الإطار، أن ما حصل في تونس بعد تسعة أعوام من الثورة، لا يبتعد كثيراً عن المسار الطبيعي الذي تتخذه كلّ الشعوب بعد ثوراتها من حيث اختبار عدم الاستقرار السياسي، لأن الصورة لا تكون قد اتضحت كثيراً ما بين إرهاصات الماضي والحاضر، مبيناً أنه مع تردي الوضع الاقتصادي والاجتماعي نتيجة التركة القديمة ومنح الأولوية للجانب السياسي، فبالإمكان القول إن ما حصل في تونس لا يختلف كثيراً عما عاشته الكثير من البلدان التي عرفت ثورات.
وشدد رئيس "مركز الدراسات الاستراتيجي"، على أنّ ما تحقق في تونس خصوصاً، هو تأكيد دورية الانتخابات وترسيخ الاحتكام للقانون والسلطة في التداول السلمي على الحكم، من دون أن تطرأ أي انتكاسة على الممارسة الديمقراطية. ولفت إلى أنه على الرغم من التعثرات والصعوبات، إلا أن هناك حيوية في الساحة السياسية، ما دفع إلى محاولة البحث عن الحلول من داخل النظام الديمقراطي، بهدف تحسين أداء النظام السياسي ومواجهة النقائص التي تنعكس على الناس. ورأى منصر أن بلاده خطت خطوات هامة عبر الانتخابات الأخيرة، وخصوصاً الرئاسية، مع وجود دينامية يجب أن تفضي إلى حلول أكثر وضوحاً ونجاعة، فالمسار لا يزال يخضع إلى إرهاصات وتحولات، ولا يمكن تقييمه قبل مضي فترة أطول، لأن تسع أو 10 سنوات، قد تعطينا فكرة عن توجه المسار، ولكن ليس على المسار ككل.
من جهته، أكد الأمين العام للحزب الجمهوري، عصام الشابي، على حقّ التونسيين في الاحتفال بمرور تسعة أعوام على انتصار ثورتهم وسقوط نظام الاستبداد والظلم، والاحتفال بنظام ديمقراطي يقوم على التداول السلمي للسلطة وصيانة حقوق الشعب وفق دستورٍ نال ثقة المواطنين وإعجاب الجهات المعنية بالدساتير وحقوق الإنسان، لافتاً في حديث لـ"العربي الجديد" إلى أن ما تحقق لا يخلو من صعوبات أنهكت الدولة والمجتمع، ولا تزال تهدد الإنجازات المكتسبة. وفي هذا الإطار، تبرز بحسب رأيه، الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تزداد حدة وتتخذ نسقاً تصاعدياً، إلى جانب تفاقم عجز التوازنات المالية للدولة، وازدياد يأس الشباب ممن لا يجدون أفقاً لتحقيق أحلامهم، ما ينعكس على تطلعات الشباب والشعب بشكل عام إلى التغيير.
ورأى الشابي أن الانتخابات الرئاسية الأخيرة أعادت الأمل للتونسيين بوضع حد لتفاقم البطالة ومقاومة الحيف الاجتماعي، لكن القوى التي أفرزتها الانتخابات (التشريعية) فشلت في تشكيل حكومة قادرة على قيادة البلاد، ما أفضى إلى غياب البوصلة لدى أغلب الكتل النيابية وغياب فكر سياسي يقوم على ضبط الأولويات وتقديم المصلحة العامة على الحزبية. ورفض الشابي أن تؤدي هذه الإشارات السلبية إلى اعتبار أن التغيير يكمن في إعادة خلط الأوراق أو التحالف مع لوبيات الفساد، فمع عودة المبادرة إلى رئيس الجمهورية (في مسألة الحكومة) يجب أن تعود الأطراف الباحثة عن المصلحة العامة إلى الاتفاق على برنامج مرحلي، والعمل على فتح الملفات ذات الأولوية وتشكيل الحكومة. وشدد الأمين العام للحزب الجمهوري، على أن الواجب يدعو الأحزاب التي دافعت عن الديمقراطية وتخليص الدولة من الفساد، إلى التواضع والانطلاق في برنامج وطني ومعالجة القضايا الحقيقية وتحقيق مصالح التونسيين، مؤكداً بقاء الحلم وضرورة الوفاء لدماء الشهداء وجرحى الثورة وعدم إضاعة البوصلة في تشكيل الحكومة، التي يجب أن تكون أقرب إلى أهداف الثورة ووفية إلى تطلعات وآمال التونسيين.
وفي إطار التوافق على تحديد الإنجاز الأهم الذي تحقق حتى الآن في مسار الثورة التونسية، شدد المحلل وأستاذ الفلسفة السياسية قاسم الغربي، في حديث لـ"العربي الجديد"، على أن ترسيخ الديمقراطية هو المكسب الأساسي الذي ربحته البلاد، مقراً بتعثر خطوات أخرى، على غرار استكمال المؤسسات الدستورية.
واعتبر الغربي أن جلسة منح الثقة لحكومة الحبيب الجملي (يوم السبت الماضي)، التي أفضت إلى إسقاطها، هي مؤشر على ديمقراطية الحكم، بصرف النظر عن التحالفات التي صيغت لهذه الغاية. ولفت في هذا السياق، إلى أن جانباً من الديمقراطية مبني على توافقات وتحالفات بين أحزاب سياسية، على اختلافها.
ووفق تقديره، فإن مشهد الأحزاب السياسية وهي تتصارع في ما بينها بأدوات الدستور، وتحت مظلة مؤسساته، لتسقط حكومة بإرادة حرة، يدل على حصر العمل السياسي ضمن هذه الآلية، مع إقصاء الأدوات الخارجة عن المنظومة الديمقراطية، على غرار الانقلابات وممارسة العنف، مذكراً بدوره بوجود أطراف لا تتبنى مقولات الثورة، ولا تعترف بها حتى، أو بدستور العام 2014، إلا أنها انخرطت اليوم في منظومة الحكم والسلطة، وخاضت الانتخابات التعددية التي لم تكن لتحصل لولا الثورة.
وحول مبدأ كسب المشروع الديمقراطي، تبنى القيادي في "التيار الديمقراطي" غازي الشواشي، طرح الغربي نفسه، معتبراً أن من البديهي أن تكون تونس قد نجحت في جانب من الديمقراطية، باستثناء أنها أخفقت في تخطي مرحلة الانتقال الديمقراطي، ومشدداً على أن هذا المسار لم ينته طالما لم ترس المؤسسات الدستورية وضمانات الرقابة والمحاسبة التي نصّ عليها. وبرأيه، فإن الديمقراطية في تونس لا تزال هشة، لأسباب داخلية كالاحتقان الاجتماعي والتهديدات الأمنية التي قد تؤدي إلى ردة أو إلى ديمقراطية "عاقر" لا تصمد كثيراً، إضافة إلى المخاطر الخارجية التي تحدق بالبلاد، والتي قد تعيدها إلى الوراء، إذ تعيش الجزائر على حدودها مخاض الانتقال السياسي بدورها، فيما تشهد ليبيا على الحدود الجنوبية صراعات ومعارك.
من جهته، يعتبر عالم الاجتماع الدكتور مهدي المبروك، وهو مدير "المركز العربي لدراسة السياسات" في تونس، أن إدراك كيفية التحول من الثورة إلى الانتقال الديمقراطي، وماهية موقع تونس بعد عقد من الزمن تقريباً على اندلاع الثورة، أي تحديد الوجهة التي نقصدها والمسافة التي قطعناها، مسائل مهمة لتحديد المنطقة التي نقف عليها اليوم.
وفي حديث مع "العربي الجديد"، يطرح المبروك، والذي كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والانتقال الديمقراطي، أسئلة حول المسار الذي شهدته تونس إلى اليوم. ويرى أن ما حدث في تونس يمكنه أن يتجاوز كفعل، حدث الثورة وتسميتها كذلك، بحكم ما أفرزته من أحداث متتالية في مناطق أخرى من العالم ولا تزال. ومقترباً من وصف الثورة التونسية بأنها "ثورة نخب"، يدعو المبروك إلى عدم التسليم بالمسميات والأوصاف وطرح الأسئلة الجريئة ومغادرة منطقة "الاطمئنان الفكري".
كما ينبه الباحث السياسي إلى أن الثورات تتحول تدريجياً، وضمن مسارات عديدة وطرق مختلفة، من الثورة إلى التحول الديمقراطي، ومن أحلام الثورة الواسعة إلى ضيق الدولة وعقلانيتها الباردة، محذراً في هذا الإطار من المنحازين عاطفياً وفكرياً الى الثورة، وكأن "السكن في الثورة" يمنحهم شرعية للنقد الأبدي لما يحدث حالياً، وهو ما يحجب تبيان ما يحصل على أرض الواقع، ما قد يوصل إلى نزعة إنكارية.
وفي ردّ على سؤال حول كيفية الخروج من سردية الثورة الآسرة، يدعو المبروك إلى فكّ الارتباط بين الثورة والانتقال الديمقراطي، ومغادرة زمن الثورة المتمدد في خيال البعض باعتباره مهمة ضرورية، مشيراً إلى أن هذه الحركة مهمة، حتى لا نترك هذا الحنين الجارف للثورة يعيدنا إلى زمن ولى، معتبراً أن الوفاء للثورة هو مغادرتها والسكن في زمن التحول الديمقراطي.