الهدنة العسكريّة في دمشق: استراحة بين حربين

14 مارس 2014
تعقد الهدن تحت وطأة الحصار (جون كانتلي ـ Getty)
+ الخط -

في مواجهة عدو يفوقهم عدداً وعدة، وتحت وطأة الجوع، وافق مقاتلو المعارضة السورية في حي برزة، وهو أحد أحياء العاصمة دمشق، على وقف إطلاق النار مع قوات النظام السوري التي تحاصرهم.

كان هذا واحداً من عدة اتفاقات مماثلة أبرمت في ريف دمشق، وسمحت بعودة شيء من الحياة العادية إلى بعض الأحياء، كما سمحت للنظام أن يعلن عن عملية مصالحة، في حين تصر المعارضة المسلحة على دعوتها بـ "الهدنة".

وفي إطار حملة على معاقل المعارضة في مختلف أنحاء البلاد، يشير لها بعض المسؤولين بأنها حملة "الجوع حتى الركوع"، حاصر الجيش "برزة" واستنزف الحصار قوى المعارضة. وقال متحدّث باسم المقاتلين يكنى بأبي يحيى: "عرفوا بالضبط متى يتصلون بنا لعرض اتفاق وقف اطلاق النار".وأضاف "تعبنا. ولم يكن لدينا قرب النهاية ما يكفي من الرجال، وأصاب الشباب الإرهاق للقيام بالحراسة 24 ساعة بالاضافة إلى القتال".

وأصاب الدمار شوارع حي برزة، التي تقع على مسافة خمسة كيلومترات إلى الشمال من وسط دمشق، بسبب القصف الجوي والقتال الذي خلف جثثاً في العراء.

أما الآن، فالغذاء والدواء يدخل الحي بحرية نسبياً، وعادت بعض العائلات التي فرت من القتال، رغم أن كثيرا منها وجدت بيوتها حطاماً.

ويعتبر مسؤولو النظام أن مقاتلي المعارضة، في الأحياء التي عقدت هدنة،  قد ينالون عفواً، ورسالتهم هي أن السوريين سيحلون مشاكلهم بأنفسهم، متجاهلين الوساطة الدولية وأي مطالب بأن يقدم الأسد تنازلات لخصومه.

هدنة هشة

تجرع مقاتلو برزة الدواء المر بقبولهم الهدنة. وقال أبو يحيى "كثيرون من المقاتلين أصيبوا بجروح بليغة، عندما ساء الحصار جداً ولم نستطع تهريب أي معدات طبية أو غذاء لهم". وأشار إلى أن قرابة 120 مقاتلاً لقوا مصرعهم، من أصل قوة المقاتلين المؤلفة من 700 مقاتل".

وفي كثير من المناطق التي اتفق فيها على هدنة، ظل الجيش خارجها مقابل خطوات رمزية مثل رفع العلم السوري، بدلاً من علم الاستقلال السوري وهو علم الثوّرة.

الفوائد التي يجنيها النظام من هدنته مع برزة واضحة، إذ بات بإمكانه إعادة نشر قواته في أماكن قتال أخرى، كما أنه استعاد منفذاً يؤدي إلى حي عش الوروار المؤيد للأسد، حيث تقيم أسر العسكريين التي انقطعت الصلة بينها وبين وسط دمشق.

وقال ضابط استخبارات، وهو يتحدث إلى سائق سيارة أجرة في دمشق: "قيادتنا عبقرية في طرح فكرة وقف اطلاق النار في برزة. فقد حولنا المتمردين من مقاتلين إلى أرانب بين أيدينا".

لكن الشكوك تراود الكثيرين في (جدوى) الاتفاق لأن مطلبهم الرئيسي لم يتحقق. وقال أحد مشايخ  الحي، المعروف باسم الحاج، ويحظى باحترام المقاتلين: "لا نزال نريد معتقلينا الذين لم يفرج النظام عنهم، وقف اطلاق النار شيء طيب، لكن يجب تنفيذه بالكامل". وحول توقعاته عما سيجري في المستقبل، قال الحاج: "نحن لا نخشى إلا الله ونؤمن أن الله سيمحق الطغاة".

شارع الموت

سمحت الهدنة لعائلات بالعودة إلى برزة، ومنها أسرة عادت إلى البيت الذي هجرته قبل عام. وأشارت الأم، التي طلبت تعريفها باسم رنا، إلى شارع رئيسي وقالت: "هذا ما اعتدنا أن نسميه شارع الموت. ظلت الجثث لأيام في الشارع ولم يستطع أحد رفعها وجاءت الكلاب من التلال لتنهشها". وتوقفت المرأة أمام أنقاض بيت على الطراز العربي التقليدي، قائلة: كان هذا بيت شقيقة زوجها قبل أن تبدأ الغارات الجوية والقصف من القوات النظاميّة.

وفي مناطق أخرى من برزة، ظهرت مؤشرات على عودة الحياة، وجلس بعض الناس يأكلون شاورما الدجاج عند محل أعيد افتتاحه الشهر الماضي. وقال القصاب في المحل المجاور، الذي عاد لمزاولة نشاطه في الآونة الأخيرة، إنه بعد تخفيف الحصار استطاع جلب اللحوم على الرغم من أن بعض الأشياء لا تمر عبر الحصار. ويعيش البعض في مبان شبه مدمرة، وإن كان كثيرون يتقبلون ضرورة هدمها وإعادة بنائها في نهاية الأمر. ويتحدثون بكثير من الرجاء وقليل من التوقع عن إعادة البناء ويعملون في الوقت نفسه على تخزين المؤن خشية تجدد الحصار.

نريد أن نعيش

وقف إطلاق النار يختلف شكلاً ومضموناً من حي لآخر. ففي الشهر الماضي رأى صحفيون زاروا ضاحية ببيلا، مسلحين بدا أنهم من مقاتلي المعارضة وقوات موالية للأسد وهم يتعانقون في الشوارع.

لكن نشطاء في المعضمية، وهي بلدة قريبة من دمشق، تعرضت لحصار شرس قبل الاتفاق على وقف إطلاق النار، يقولون إن قوات الأمن تكثف ضغوطها على المقاتلين الباقين هناك للاستسلام.

وقال أحد أفراد القوات الموالية للأسد، متحدًثاً عن مقاتلي المعارضة، الذين لا يزالون داخل قدسيا: "أنت لا تصدق فعلاً أننا سنتركهم يفلتون بفعلتهم.. أليس كذلك؟". وأضاف مبتسماً"أنت تعرف تماماً من هم، وبالقطع لن نتركهم يفلتون بما فعلوه. لدينا أوامر بملاحقتهم واحدا واحداً".

وانهار وقف إطلاق النار في ضاحية قدسيا، بعد أن دخل ضابط من حي مجاور ذي غالبية علوية، إلى المنطقة الواقعة تحت سيطرة مقاتلي المعارضة بصحبة ابنه منتهكاً اتفاقا بعدم دخول أحد من العسكريين، مما أدى لمقتل الاثنين.

ورداً على ذلك، أغلقت قوّات النظام كل الطرق المؤدية إلى قدسيا. وعوضاً عن طلب تسليم الجناة، طلبت دية قدرها ستة ملايين ليرة (40 ألف دولار). ورضخ مقاتلو المعارضة وضغطوا على السكان والتجار للمشاركة في جمع الدية.

وتعقيباً على هذه الحادثة، قال أحد السكان "هذه هي الطريقة التي يهدف النظام لتدميرنا بها، يضغطون ويضغطون إلى أن ننقلب على بعضنا بعضا، هل تصدق أن المقاتلين يطلبون الآن من أصحاب المحلات مالا مقابل حمايتهم؟".

وامتزجت مشاعر الإحباط بالتسليم بأن كل ما يريده البعض بعد هذا الصراع الطويل المؤلم لإنهاء حكم أسرة الأسد الممتد منذ أربعة عقود هو انتهاء الصراع. وبعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على ترديد مطالبات بالإصلاح في ريف دمشق، ونزول المتظاهرين إلى الشوارع مرددين "ارحل .. ارحل يا بشار" باتت تتكرر الآن عبارة جديدة كلما تطرق أحد لمسألة وقف إطلاق النار: نريد أن نعيش.