ماكرون يستعيد توازنه: نتيجة أوروبية مُرضية تمهد طريق 2022

01 يونيو 2019
بوسع ماكرون التحضير للمرحلة المقبلة بقوة(لودوفيك ماران/فرانس برس)
+ الخط -

على الرغم من تصدّر حزب "التجمّع الوطني" برئاسة مارين لوبان الانتخابات الأوروبية في فرنسا التي أجريت يوم الأحد الماضي، أمام حزب الرئيس إيمانويل ماكرون، "الجمهورية إلى الأمام"، إلا أن الأخير استطاع أن يصمد في وجه ما اعتبره كثيرون "استفتاء ضد سياساته"، وفي وجه لوبان، التي تعادلت معه في البرلمان الأوروبي (23 مقعداً لكل منهما). وقد توقع كثر قبل الانتخابات ألا يخرج ماكرون من عزلته ومن انهيار شعبيته، التي تسبّبت فيها إدارته لقضية ألكسندر بنعلا، ثم احتجاجات "السترات الصفراء". وكانت الانتخابات الأوروبية مرشحة لتكشف هذه العزلة، ولكن توقعات خصوم ماكرون لم تنجح، فخرج الرئيس الفرنسي بنتيجة مقبولة، تفتح له المجال أمام السعي للفوز بالاستحقاقات المقبلة.

وتعليقاً على ذلك، كتبت مجلة "فالور أكتوييل" في ملف لها، بعنوان "ماكيافيللي، رئيساً"، تحدثت فيه عن "ابتلاع" ماكرون لليمين بعد أن ابتلع اليسار من قبل، قائلة "وصل إلى الحكم بفضل اليسار، وهو مصمم على البقاء بفضل اليمين". واعتبرت أنه أصبح مستعداً لمبارزة أخرى ضد لوبان، في الانتخابات الرئاسية لعام 2022.

أمام هذا الواقع تُطرح تساؤلات حول كيفية تمكّن ماكرون من استعادة توازنه والأمل في الاستحقاقات المقبلة؟ ففي عز أزمة "السترات الصفراء"، توجّه ماكرون إلى تنظيم "الحوار الوطني الكبير"، والتقى بكل الشرائح الاجتماعية. وفي نهاية الأمر أعلن عن إجراءات اقتصادية كثيرة، اعترف بأنها لن ترضي الجميع، ولكنها ساهمت في إعادة كثير من المتظاهرين إلى بيوتهم، وأقنعت كثيراً من مناصريهم بقلب صفحة التظاهر.

وحين اقتربت حملة الانتخابات الأوروبية، ساهم في اختيار أعضاء حزبه، وتعيين قادته، وصياغة برنامجه، الذي استوحاه من رسالته إلى الأوروبيين، كاشفاً عن هواه الأوروبي. ولما ظهر الماضي اليميني المتطرف لرئيسة لائحته، الآتية من حزب "الجمهوريون"، ناتالي لوازو، عائقاً في مواجهة لوبان وخطابها المعادي للاتحاد الأوروبي، قرر الانخراط بشكل أكبر في الحملة الانتخابية، على غرار ما كان يفعله الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي، فطبع الحملة بحضوره وتصريحاته، تاركاً لوازو في الخلف.



وعندما علم ماكرون أن الاستنجاد بشخصيات من اليمين واليسار لن يكون كافياً في مواجهة مارين لوبان وتفادي كارثة انتخابية، لعب على وتر الإيكولوجيا (البيئة)، التي أصبحت موضة لدى كل التشكيلات السياسية الفرنسية، حتى ينسى الفرنسيون استقالة وزير البيئة، نيكولا هولو. فضاعف من مواقف تثبت انحيازه للمناخ. انفتح على الإيكولوجيين، واستطاع جذب بعض قياداتهم، ومنهم باسكال دوران وباسكال كانفان وفرانسوا دي روجي، مستعيناً بوساطة دانيال كوهن ـ بينديت.

وبينما كان يطالب "السترات الصفراء" بالعودة إلى بيوتهم، كان يمتدح الشباب المتظاهرين من أجل المناخ، بل استقبل في الإليزيه إحدى رموزهم، وهي الفتاة السويدية غريتا تونبيرغ. وقبل الانتخابات الأوروبية بساعات، توعّد ماكرون برفض أي اتفاق تجاري مع الولايات المتحدة بسبب انسحابها من "اتفاق باريس للمناخ"، عام 2017.

اليوم يستطيع ماكرون الانتقال إلى الفصل الثاني من ولايته الرئاسية، بعد أن تجاوز عقبة "السترات الصفراء"، التي تبيّن أن تأثيرها في هذه الانتخابات كان ضعيفاً، فكل الأحزاب التي استعانت بوجوه من "السترات الصفراء"، أو تلك التي ناصرتها خلال أشهر طويلة، لم تحقق أي شيء، خصوصاً "انهضي فرنسا"، التي خرجت خالية الوفاض، مثلها مثل "فرنسا غير الخاضعة"، التي تكسرت كل آمالها بتحقيق اختراق سياسي كبير.
ومن علامات استعادة الثقة لدى ماكرون وفريقه، تأكيد الحكومة أنه لا تعديل حكومياً، وأن الحكومة قوية ومتماسكة، ولن تغير من الاتجاه الذي تسير فيه. كما أكد أن لا حلّ للبرلمان كما طالبت لوبان. ما يعني مواصلة الإصلاحات الموعودة فيما يخص تأمين البطالة والتقاعد والإصلاح الدستوري.

ومع ترقب العديد من الاستحقاقات الانتخابية في السنوات المقبلة، فالرئيس الفرنسي يعوّل على الفوز في الانتخابات البلدية، ومن ضمنها باريس. وفي هذا الإطار يواصل رغبته في تقزيم اليمين، الذي يدير الكثير من البلديات في فرنسا، عبر دفع حلفائه في حزب "اعمل"، (المنحدرين من الجمهوريون) لتوجيه "نداء إلى عمدات فرنسا من اليمين إلى اللحاق بالأغلبية".

لا شك أن هزيمة كبيرة لماكرون في الانتخابات الأوروبية كانت ستعزله وتشُلّ حركته الأوروبية، ولكن هذه النتيجة المُرضية، فتحت له آفاق الحركة في الاتحاد الأوروبي وفي البرلمان الأوروبي، ومن هنا رغبته المعلنة في بناء "أغلبية جديدة". وليس من شك أن نواب "الجمهورية إلى الأمام" سيكونون منضوين تحت التكتل الليبرالي الأوروبي، ولكن ماكرون لم يفقد بعد الأمل في إحداث أغلبية "تقدمية" تتجاوز الخطوط التقليدية، ومن هنا انفتاحه على بعض الأحزاب الاشتراكية الأوروبية، ومنها الاشتراكي الإسباني، وتوجيه الدعوة للإيكولوجيين والاشتراكيين الفرنسيين، من أجل التحالف لصالح الحلم الأوروبي، وهو ما يجعلهم في وضع حرج.

يعرف ماكرون جيداً، أنه أضعف من الجار الألماني، ولكنه أظهر إصراراً في لقاء بروكسل الأخير، على الوقوف في وجه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ومرشَّحها لرئاسة المفوضية الأوروبية، الألماني مانفريد ويبر، وعلى فرض الفرنسي، ميشال بارنييه، أو موالين لحركته السياسية "الليبرالية"، رئيسي الحكومة الحاليين في بلجيكا وهولندا، شارل ميشال ومارك روته. وستعرف نتائج التعيينات في الاتحاد الأوروبي قبيل انعقاد المجلس الأوربي في 20 و21 يونيو/حزيران الحالي، كما سيعرف مدى تأثير ماكرون فيها. اليوم يبدو ماكرون في وضع أفضل بكثير من أشهر سابقة، وهو يسعى باستمرار لزيادة تشرذم اليمين واليسار، حتى يُواجه لوبان، ثانية، سنة 2022.