عربة خضار للثورة المصرية

02 مارس 2015
يصراح الشباب العربي للبحث عن قوتهم اليومي (Getty)
+ الخط -
تنتشر في المنطقة العربية البطالة وتتسع معدلاتها بشكل مستمر، وحسب مؤشرات وتقارير التنمية، فإن المنطقة ‏سجلت أعلى معدلات بطالة في العالم. بل إنه تم رصد ما يقرب من 70 مليون شخص انضموا إلى صفوف العاطلين من العمل بعد الأزمة المالية في 2008، ‏والتي ارتبطت بنمط اقتصاد يقوم على المضاربات المصرفية والعقارية على حساب الإنتاج الصناعي ‏والزراعي. وقد انعكست الأزمة على الاقتصاديات العربية، وخاصة أنها تعاني تراجعاً في الأداء، وتدور في ‏نمط التكوين الاقتصادي نفسه.‏ 
لذا لم تنفصل أسباب الثورات عن الواقع الاقتصادي الذي شكلت ظاهرة البطالة أحد منتجاته بجدارة. كان ‏البوعزيزي، الذي أحرق نفسه، تجسيداً لمأساة عشرات الملايين من الشباب الذين يعانون البطالة. أحرق الشاب ‏التونسي جسده ليصرخ معلناً رسالته للمجتمع بقسوة، احتجاجاً على مصادرة الأمن عربة الخضار، وهي مصدر رزقه، بعدما تم الاعتداء عليه.‏
البوعزيزي ليس استثناءً، فهناك مَن هم في ظروف العمل نفسها. هناك المعطلون سواء كانوا لا يجدون فرصة ‏عمل أو يعانون من بطالة موسمية، وهناك من فقدوا أعمالهم في ظل المنافسة الشرسة في سوق العمل. هناك ملايين "البوعزيزيين" الذين يشكلون أكثر من نصف سكان الوطن ‏العربي.‏
أمثال البوعزيزي كثر، منهم من انتحر شنقاً أو حرقاً أو قفزاً من فوق "كوبري" (جسر)، أو لوحة إعلانات في ‏الطريق العام، ليصرخ في وجه العالم ويقول: إنكم تقتلوننا كل يوم، فلا عجب إن اخترنا أن نموت بأيدينا لا بأيدي ‏هذه النُّظُم التي تحرمنا القوت والحد الأدنى من الحياة.‏
وفي ظل المشهد المرتبك لقوى الثورة والقوى الشبابية، لم تقدم السلطات الحاكمة تنازلات إلا في ما ندر، ولم تضع ‏برامج تنمية اقتصادية تؤدي إلى تخفيف معدلات البطالة، لأن وضع الخطط التنموية التي تستوعب العاطلين عن ‏العمل تعني في الوقت ذاته ضرورة وجود نُظُم لها برامج اقتصادية وخطط مغايرة لما هو قائم الآن.‏
وتستوجب بالطبع إبدال النمط الاقتصادي الذي يقوم على الاستيراد والتشييد والريع، باقتصاد حقيقي يقوم على ‏دعم التصنيع ومشاريع الإنتاج الزراعي. وهذا لا يمكن أن تقوم به تلك النظم التي تنهب شعوبها والتي تعد امتداداً ‏لنظم ما قبل الثورة، من حيث إنها ذات طبيعة تابعة وإنها أفسدت الزراعة وخربت الصناعة وتركت الأسواق للنهب ‏واليد العاملة لاستغلال الشركات الدولية التي تشارك فيها الفئات الحاكمة وتستفيد منها.‏
لم تعد الصورة خفيّة على أحد، فقد استعادت قوى الثورة المضادة عافيتها وصعدت مرة أخرى قوى النهب ‏الاقتصادي إلى صدارة المشهد السياسي بقوة، بعد خفوت صوت الميادين. ساهم الإخفاق الذي تعرضت له ‏الثورات في تبخّر وعود الإصلاح ، بل إن بعض النظم اتخذ إجراءات قاسية ترافقت مع الانتكاسة التي تعرضت ‏لها الحركة الجماهيرية.‏
لم تكن آمال ملايين العاطلين من العمل تتقلّص في توفير عربة بيع خضار كحل للبطالة، فتلك الأطروحات ‏الاقتصادية، إن جاز أن نطلق عليها "اقتصادية"، هي حلول ساذجة لا تصنع بالطبع تنمية ولا تقيم دولة ولا تسيّر ‏مجتمعاً. ورغم بؤس تلك الأطروحات، إلا أنها تجد مروجيها من كتّاب وأبواق السلطة، حتى وإن حسبوا أنفسهم ‏على قوى المعارضة أو كانوا أساتذة اقتصاد.‏
تلك الفئات تدافع عن مثل هذه الأطروحات أو تصمت عنها من منطلق أنهم شركاء أو مستفيدون من هذه السلطة ‏بشكل أو بآخر، ولا يعنيها في حقيقة الأمر أحوال ملايين من الشباب المفقرين ولا أحوال الوطن، مهما أطلقت من ‏شعارات.‏
أخيراً، ليس أدلّ على بؤس حال المتعطلين إلا المخاطرة التي قادت عمالاً مصريين إلى أن يقتلوا على أيدي مجرمي ‏تنظيم داعش. ولعلّ بشاعة الفيديو الذي نشر تدلّ على قدر بؤس العيش الذي دفع هؤلاء وغيرهم من العمال ‏الموجودين إلى الآن في الاستمرار بعملهم في ليبيا. هذه الوقائع تكشف أن البطالة تهين الكرامة وتقتل، سواء وقع ‏القتل أثناء محاولات الهجرة الغير شرعية في زوارق إلى أوروبا أو في دولة تتنازعها الصراعات، أو بإعلان ‏رسائل الاحتجاج واليأس عبر انتحار معلن ومقصود يقول للمجتمع إن البطالة تقتل.‏

(باحث انثروبولوجيا من جامعة القاهرة)

إقرأ أيضاً: مجزرة ضريبية سورية باسم "تشجيع الاستثمار"
المساهمون