صخرة جلال الدين

27 مارس 2017
لبيبة زغبي (لبنان 1890 - الأرجنتين 1973)
+ الخط -
سبع بنات بضفائرهن يصخبن تحت الزيزفون والصفصاف بغدير اللقالق. والإوز يسبح في البركة. نشرن الفرش وأخرجن من السلال صحون الخزف الصيني الأزرق. لكل بنت مشموم ورد بلدي ومنديل مطرز. هن الآن يتناوبن على ركوب الأرجوحة. وصوت ناي بعيد يلطف الفرح والصخب. نلهو قبل أن يأتي الصبيان ويفسدوا علينا الفرح قالت كبراهن. وهبّت ريح خفيفة وناحت أغصان الصفصاف وتمايل الزيزفون.

السبع بنات يملكن أوجهاً دقيقة ولكل منهن قوام خيزران. والثياب كلّها مسدلة حتى الأرض. وأشياؤهن الصغيرة تتلألأ تحت أشعة الشمس؛ مناديل الرأس؛ وأقراط الأذن الفضية؛ والخواتم بفصوص الأحجار المزركشة؛ والدمالج؛ والأحزمة. وكل شيء يرقص، وغابت الأحزان وانتشر الحبور في الوادي.

الماء في الوادي جذلان ينساب يروي حقول القمح والكرم واللوز، والرعاة غير مبالين بتبدل الفصول وما يقع من فواجع في المدائن والحارات التي بناها الآباء الأتقياء لبنة لبنة ليعبث بها الآن المارقون.

بينما أتلصص على الوادي زغردت النساء، وصفق سرب حجل من حقل شعير. ومرّت الفراشات تتخطفهن الوراوير. استلقيت على العشب الندي أبكي. لقد قتلوه وانتهى الأمر، لا يهم من قتله، وكيف. يهم أنه انتهى من أسند كتفي على كتفه ونمشي ولا أخاف. هم قتلوه لكنه لم يمت.

كان يقول لي يمكنهم أن يقطعوا أطرافي، أن يأخذوا عقلي وحتى قلبي وأبقي أنا هو. أنا لا يوجد في بدني. الذي يوجد في بدني الحسّ فحسب، أما الإدراك والفهم والحب والإرادة فمعلقة في شجرة ما في مكان ما من السماء. والحسّ جزء صغير من ذلك الكل العظيم. أنا مسافر سيرجع إلى داره ذات يوم. حتى وإن قطعوا دماغي يمكن أن أدرك وأفهم وأتذكر وأتخيّل وأعرف.

قبل لقائه اعتنيت بدراسة الأوفاق والأعمال، وعملت على إنصاف المظلومين بالعودة إلى المدونات. وأنستني المدونات كلام الله وقصص الأنبياء. منذ قرر أبي أن جسمي عليل لا يقوى لا على الغزو ولا على الرعي ظننت أن أمري مرتبط برأسي ورأسي فحسب. أما هو فأكثر اعتلالا، لكنه كانت له الرؤى، وتفسير الرؤى. تعلم منطق الطير وترويض السباع والمشي تحت زخات المطر.

وصادقته، لا نفترق حتى في النوم، كنا نصلي سوية ويملي عليّ الكلمات، كان متيقنا أن الكلمات عنيفة، ستقتلني هذه الكلمات ذات يوم كان يقول. أنت أيضاً ستغرم بها، عليك أن تتعلّم تجاوزها إلى ما هو أهم، إلى صوت الريح والصمت والتناسب. اهتم بالألحان كان يقول لي. النغم أفضل لأن الكلمات تخون. اهتم بالأصوات ومخارج الحروف والتراتيل.

كان يهديني الأشياء الصغيرة كما كل العشاق؛ سلسلة عنق تحمل مفتاحا؛ وتسبيح خرز جاء به من نيسابور؛ ومصحفا كتب بماء الورد؛ وقطة. وكنا نسلك الأفعال الصغرى كما كل المحبين؛ نتوضأ في العين؛ ونتسابق كالحمقى في مسالك التلال، ثم نقرأ أشعار العطار. وكان أحدنا يدرك ما يقصده الآخر حتى قبل أن يتلفظ. وكان موضوعنا الفلسفي الرئيس القلب أم العقل. كان يغلب ديونيسيوس والفوضى، وكنت أغلب تحت تأثير المدونات أبولون ورتق الاختلاف. لقد كان على حق. وحده الحسّ يدرك الحقيقة.

أما العشق فيبقى سيد العود إلى الأشياء، لا ينافسه الكره في ذلك لأن حبله قصير. إن العشق محمّس كبير؛ ومضمد للجراح؛ ومقو للانتماء والعصبة ضد النوائب. قد يدفع الثأر إلى رد الفعل، لكن الحب دافع إلى الفعل والتفتح والسماحة. الحب بلسم تجتمع فيه متناقضات الوجود؛ فهو أعمى ومبصر؛ بليغ وأبكم؛ متسامح وعنيد؛ سره أنه يجمع العواطف كلها.

المحب يترك ما سوى المحبوب؛ يغار ويبغض؛ يندهش لنسمة هواء وحفيف غصن؛ يفرح ويحزن؛ يسعد ويتألم. وقد يكون الحب محفزا للمعرفة والغوص في الشعر كلغة تسوّغ التلذذ بالحياة. الحب حيرة تجمع بين اللايقين والعود. وليس هناك عاطفة تقضّ مضجع المحب بالتساؤل المستمر مثل الحب. في أسبابه؛ وتوقفاته؛ وخصوماته؛ ومآلاته؛ وشروطه، وغيرها من الحيثيات التوأم للحياة نفسها.

ثم جاء الموت وغيّر كل شيء، خبأت ديوانه في بئر حتى لا يجده لصوص الغيب وسدنة المدونات. وبدأت أتعلم الإيقاع والنغم واللحن، وجزّ الصوف، وطبخ الخبز في الأفران المتوهجة، وتربية دودات القز. وتعلّمت معاني الألوان بالجلوس وراء النول مع النساء.

أذّن المؤذن لصلاة العصر وما زالت البنات في قعر الوادي يمرحن، وما زال الراعي المغني يصدح. كل الآلات صنعها الإنسان مقلداً لجسده وأصواته، الإيقاعية من المشي والرقص. والريحية من الحروف الهوائية والوترية من الحروف الساكنة.

لم تكن مرحلة المدونات مضيعة للوقت، لقد شغلت فيها ذاكرتي في حفظ البنود والحالات، كما شغلت ذكائي في قياس الشاهد على الغائب والشبيه على الشبيه، وتعلّمت العدل والتجريح وضبط الأحداث والحكايات. غير أن مرحلة مرافقة المعلّم لا تساويها مرحلة في العمر. كانت استنفاراً مستمراً وإبداعاً للإحساسات وصياغة للمشاعر كل وقت وحين.

الفتيات الآن متعبات، لكن وفجأة، وكأن شيئاً ما يحدث في الفضاء، نهضت صغراهن وبدأت ترقص، ترقص وترقص وعندما تتعب تضع منديلاً فوق رأس أخرى وتجلس لتبدأ التي وضع المنديل فوق رأسها الرقص وهكذا دواليك. وأخذني انتشاء ما، وأخذت أنا أيضاً أرقص وأرقص حتى وصلت إلى لذة الإنهاك مرورا بلذات البدء والانهماك. هذا ما أبحث عنه، هذا أقوى من الكلمات ومن الألحان. لذات متتالية ومتناغمة وكلّية، لذّة تناسب الحركات أو تسارعها أو تباطؤها، لذة التواتر ودوران الجسد حول نفسه كالكواكب، لذة الأرجل والجدع واليدين والرأس.

أهم من ذلك كله، تجاوز المكان والساعة، وتجاوز الحسّ أحياناً، دون أن تفقد أناك، أليس ذلك ما يسمونه الدنو من الخلود. في الرقص أقترب من تلك الشجرة التي توجد فيها أنا التي حدثني عنها المعلّم. في الرقص تجد المحبة والمحب والحبيب وماذا تريد بعد ذلك.

هرولت إلى المدينة وجمعت المريدين وأنشأت أمسيات للرقص، بعدما وزعت عليهم حفنات تراب من قبر الحبيب.


*كاتب من المغرب

دلالات
المساهمون